الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والمقالة خواطر الكتاب لا تكاد ترمي إلى غرض محدد ولا تجري في مذهب معين، والأغنية لواعج المغنى فلا تعبر عن المعاني العامة، ولا تهتف بالأماني المشتركة. أما الملاحم القومية، والقصص الاجتماعية، والأناشيد الشعبية، فتلك أغراض لا تزال منابعها ناضبة ودوافعها دخيلة
يأخذ المرء حال من الوجد أو الشوق أو الطرب، فيجد من القصائد والأناشيد ما يترجم هذه الحال، فيدندن ويتغنى؛ وتكون الجماعة منا في مجمع من المجامع، أو ملهى من الملاهي، أو موكب من المواكب، فيأخذها انفعال مشترك من ابتهاج أو احتجاج أو افتخار أو تحمس، فتريد أن تعبر عن ذلك بقول واحد وصوت واحد ونغم واحد، فلا تجد إلا خلجات تتوقد، ونظرات تتردد، ثم سكوناً بارداً كعرق المبهوت الخجل! حتى السلام الملكي الرسمي نعرفه نغماً ولا نعرفه كلماً كأنما وضعوه لأمة بكماء!
كذلك الفن هنا وهناك لا يجد من حرج الفردية مكاناً للتنوع ولا مجالاً للتقدم، فالتصوير كالشعر قلما يتعدى صورة الفرد وعاطفته، والرقص حتى الرجال لا يكون إلا من فرد، ولا يظهر من هذا الفرد إلا متعاقباً على أجزاء خاصة من جسمه، كالعجز والبطن والثديين والعنق، فهو حركات متقطعة مستقلة كأبيات القصيدة القديمة لا تربطها علاقة ولا تجمعها وحدة! والغناء والموسيقى يقعان دائماً على أصوات مفردة، وتقاسيم مرددة، وفرديات (مونولوجات) متشابهة، ومعان متكررة! فليس لنا - حتى ولا للقرويين - غناء جماعي ولا رقص جماعي يعبران عن شعور الجماعة ساعة الطرب أو الغضب أو النصر بكلمات موقعة وحركات موزونة؛ ولكل أمة من أمم الأرض أفنان شتى من ذلك حتى الزنوج!
إن الفردية تعلو فتكون الاستبداد، وتسفل فتكون الأنانية؛ وأن الجمعية ترتفع فتكون الإنسانية، وتنخفض فتكون العصبية؛ وإن بين الإنسانية والعصبية شعباً يعز، وأمة ترقي، وذكراً يبقى، وأثراً يخلد، ولكن بين الاستبداد والأنانية تحكم الهوى وشقاء العيش وذل الأبد. فإذا رأيت الأحزاب تتناقض وتنحل، مشروعات الشباب تضعف وتعتل، وإدارة الحكومة تسوء وتختل، فأبحث علل ذلك - غير مخطئ - في هذه الفردية حين تتعلى فتستبد، أو حين تتدلى فتستأثر. فلولا هذا الطبع الأصيل الذي طغى على الشعور، وبغى على الفطرة، لتنبه فينا الضمير الاجتماعي فأخلصنا للأمة كما نخلص للأسرة، وعملنا في