يقال في كل يوم إن جو مصر معروف بالاعتدال، فما الذي جنينا في ذلك الاعتدال؟ كانت النتيجة أن نخاف من الاضطراب في بقاع الأرض. وكانت النتيجة أن نشعر بالغربة حين ننتقل حُلوان إلى قَليوب. وكانت النتيجة أن تخمُد العواطف بفضل ما نحن عليه من قرار وسكون.
أعترف بأن مصر استفادت من اعتدال الجو فائدة عقلية، هي التفوق العظيم في التأليف، فمصر أقدر الأمم الإسلامية والعربية على التفكير المنظم الدقيق بفضل هذا الجو المعتدل الجميل.
ولكن مصر في ماضيها تخلفت في ميدان الأدب عن الشام وفارس والعراق، لأن الفوضى الجوية، لا يحسها المصريون كما يحسها الشاميون والفرس والعراقيون؛ وإلا فأين وصف الثلوج والأمطار والأعاصير في أشعار من يعيشون في ضيافة النيل؟ ثم شاءت المقادير أن تتفوق في الأدب بعد تخلُّف، فما مصدر ذلك التفوق؟ لم نعرف قسوة الطبيعة كما يعرفها الناس في الشام وفارس والعراق، وإنما رمتنا المقادير بقسوة أعنف من قسوة الطبيعة، هي الثورة الجائحة التي نحس أعاصيرها الفواتك في الأذهان والعقول والقلوب
نحن كلَّ يوم على شفا الهاوية: إن اصطرع الشرق جزعنا، وإن أضطرم الغرب نظرنا. ألم تسمعوا أنه كان معروفاً عندنا أن الميدان الأول في الحرب الحاضرة سيكون حول ضفاف النيل؟
ومن هذه المحرجات التي تتجدد كل يوم، إن لم أقل في كل ساعة أو كل لحظة، من هذه المحرجات خُلقت لنا مكاره سياسية تفوق المكاره الجوية في الشام وفارس والعراق
وما هي نقطة الارتحال من وضع إلى وضع في الأدب الحديث؟
لن أرجع إلى ما فصلته في مؤلفاتي ومقالاتي، ويكفي أن أنص على أن الأدب في مصر لم يرتق إلا بفضل الفوضى السياسية، وهي صورة من الفوضى الاجتماعية.