للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

في زوايا الطريق

دقت إحدى الساعات الكبرى على مقربة من دقات ثمان والليل بارد الأنفاس وأنا أنقل الخطى في زحمة الناس على طور الشارع. وئيدة ثقيلة لا من كلال ولا من ضنى ولكن مما كان يثقل قلبي من صور وقع بي عليها هذا المنظار اللعين. . .

وأريد أيها القارئ أن تقاسمني بعض ما أثقل قلبي فما يزيده لعمرك ثقلاً أن أحمله وحدي، وكثيراً ما سقمت إليك ما أضحكك فإن أنا صببت عليك اليوم بعض همي فلا تكن من الغاضبين. . .

هؤلاء غلمان وبنات من أبناء الشارع وبناته قد أقعوا على باب أحد المطاعم يطعمون بأعينهم مع الطاعمين بأسنانهم وقد حرمهم التقمم رفع القمامة من الشوارع حذر الكوليرا، وهو منظر قد زال عنه معناه لكثرة ما ألفناه، ولكن هاهم أولاء جماعة ممن يأكلون بأسنانهم جماعة ليسوا من أهل هذا البلد الذي آواهم فأشبعهم يأبون إلا أن يبرزوا المعنى الذي غاب فهم يلقون ببعض اللقم والقشور ويلهون ضاحكين بمرأى هؤلاء الغلمان كيف يقعون عليها كما تقع الكلاب والقطط وكيف يتزاحمون ويختصمون.

ومضيت ثقيل الخطى ثقيل القلب فلم أذهب غير بعيد حتى انعطفت عند زاوية فإذا رجل خشبية تمتد إلى جوار رجل من عظام ولحم وإذا صاحب الرجلين قد أسند ظهره إلى الحائط واستراح من بعض همه بغفوة وأمامه علب الكبريت لعله لم يبع منها بما يتبلغ به فنام، وابنه الهزيل النحيل يدفعه بيده دفعاً رقيقاً ليوقظه لأنه جائع؛ وألقيت إلى الصبي قرشاً فما وثق منه في كفة حتى اندفع يوقظ أباه في شدة وسرعة ليزف إليه البشرى. . .

ومشيت ثقيل القلب وئيد الخطى فما هي إلا خطوات حتى وقفت حيال منظركم تمنيت لو رآه كل رجال الفن فهاهو ذا ضرير قد اضطجع حتى أوشك أن يتمدد على سلم دكان مغلق وأسند ظهره إلى دركة ورفع وجهه صوب السماء فانعكس عليه نور مصباح قريب، ومد يده يستجدي في صمت لا ينطق ولا يتحرك أية حركة فكان منه في هذا الوضع تمثال بالغر الروعة لو وقع عليه فنان لما ساوى ذلك عنده وقوعه على كنز فما يصور البؤس شيء أحسن مما تصوره هاتان العينان الغائرتان وهذا الوجه الضارع وهذه اليد المعروقة

<<  <  ج:
ص:  >  >>