للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

بيني وبين كتبي

ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة. والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زماناً مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان صار ضرورة كالهواء الذي أتنفسه، فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه على أقل تقدير بعض ملابسي فلا أستطيع أن أبرح منزلي إلا وهو معي، بل كثيراً ما خيل ألي رفاقي - كما حدثوني - أني أستغني عن أي شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن لم أفتحه فيما بينهم إلا دقائق معدودات.

أيكون مرد هذا الضيق إلى ما تبعثه طول الألفة من السأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درساً وملهاة قد شغلتني من متع هذه الحياة؟. . . فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟. . . ولكنني لا أرتاح إلى هذا التعليل ولا إلى ذلك. ففي نفسي مما يبغض الكتب إلى نفسي ما هو أعظم خطراً مما ذكرت!. . فلقد أستحوذ على لبي خيال، لا أدري إن كنت فيه مخطئاً أم مصيباً: وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئاً مما ينبغي لي أن اعلمه عن هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال يوسوس إلي أني إن لبثت بعد ذلك بين كتبي، فمصيري أن ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود. . . ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو المزاح، فلو شئت لجئتك بألف دليل على أن لي العذر على فيما أقول. وحسبك أن الكتب قد بنيت لي كثيراً من أصول الفضائل وقواعد الخلق؛ فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس، وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني بالغفلة والحمق كما رميتهم بالضلال والسفه. وحسبك أن كثيراً من ذوي قرباى ومن خلاني الأدنين، قد سخروا مني أكثر من مرة سخراً كان ينال من نفسي بعض الأحيان، حتى لأهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر كما أرى ذلك في أعينهم، وكما تفسره لي ابتساماتهم التي يعلقون بها على كلامي إذا خشوا أن يسيئوا إلي بألفاظهم. وكان مما يريد تبرمي بهم انهم يظنون بي الحمق بينما أعتقد أنا وفق ما علمتني الكتب أنهم هم بما يبدون من آراء أكثر الحمقى. ولقد يصارحني من يجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>