لم اعرف المرحوم العلامة النشاشيبي من قرب، فقد كان اكثر ما عرفه عنه ما اقرأه، له؛ ولم القه أو اجتمع إليه لقاء طويلا وإنما هي صورة مما يتحدث به الناس عنه؛ ولم استمع إليه إلا مرة واحدة في دمشق لعلها كانت في مهرجان المتنبي في عيده الألفي،. . .
واستمعت إلى النبأ الفاجع بوفاته وأنا في هدأة من الليل، احتمي فيه من أذى الناس وعن قصد أو غير قصد. . . فاغرورقت عيناي بالدموع، وندت مني آهة عميقة، وأقفلت المذياع وجلست كما لو كنت أفكر.
ولم يكن بي من حاجة إلى تفكير، فليس اشق على نفسي من أن تلجا إلى التفكير البارد في حرارة المصاب ولوعة الفجيعة، وإنما كان ذلك انسياحاً في عالم من الخواطر تنساب على غير نسق وتمضي في غير نظام.
وتمثلت الأستاذ، وقد لمحته مرة في فندق الكونتننتال في العام الماضي، كتلة من الحيوية على اعتلال الجسم، وغلبة السقم، وتهدم البنيان؛ وغيرة على العربية على قلة الغير، وانعدام النصير، وغلبة التطرف.
وتخيلت صوته في مهرجان المتنبي، لكأني اسمعه الآن. . . دفقة من القلب. يتفجر من نبعه الإخلاص كما يتفجر الماء من العين الثرة الغزيرة، ويسري فيه الوفاء للعربية، ويطغى ويفيض حتى ليملأ كل ما حوله فإذا الذين يستمعون إليه يمضون معه وينساقون في هذه الموجة التي يخلقها صوت متهدج ولكنه قوي عنيف، وتسايرها يد مرتجفة ولكنها بيضاء نقية ويطفو عليها الحق فلا يلبث أن يأخذك الحق بالرضا عنه والقناعة به.
وعرضت في ذاكرتي هذه المقالات، وهذه التعليقات وهذه النقل. . . فكنت كالذي يعرض الثقافة العربية على اختلاف قطوفها وتباين ألوانها، وتعدد ثمرها. . . وانتبهت فجأة: أي ثروة عميقة خسرت الثقافة العربية حين استأثرت الخلود بروح النشاشيبي. . .
إن أصدقاء العلامة المرحوم اقدر على الوفاء بحقه، والذين خالطوه في عواصم العرب في القاهرة والقدس والشام وكانوا يستمتعون بكرم خلقه وكريم فضله اقرب إلى الإحاطة بصفاته والكشف عن نواحي التقدير في هذا الجسم الذي ناء بالمرض وأنما هي كلمة لرجل