كنا نتكلم في نهاية المقال السابق عن رأي الأستاذ توفيق الحكيم في أن التراجيدية تقوم على أساس من الدين، ووافقناه على هذا الرأي، وذكرنا أن تلك كانت حالها عند الإغريق. والآن نقول بأن ذلك كان شأن التراجيدية أيضاً في أوربا المسيحية خلال العصور الوسطى. فقد كانت تستعد موضوعاتها من صميم العبادة المسيحية والطقوس الكنسية. ففي بادئ الأمر لم يكن المسرح إلا صورة مكبرة لما يعمل في الكنيسة أثناء القداس لجعله أبلغهم تأثيراً في النفوس، وأشد أسراً للقلوب، وأفعل في استثارة العاطفة. بعد ذلك صارت تمثل حياة ابن الإله في صورة درامية تنفطر لها القلوب، وحياة السيدة العذراء، ومعجزاتهما، ثم معجزات القديسين. ومن بعدهما أخذت الخرافات والأساطير الدينية تغذي التراجيديا بمادتها التي لا تنضب. وكلها أشياء شعبية أليفة للشاهدين، وفي متناول فهم الجميع وإحساسهم. كانت تمتزج بها الدعابة من حين لحين، بل كانت تنزل في بعض الأحيان إلى درجة من السخرية لا تليق بقداسة الدين؛ حتى كانت السلطة الزمنية تضطر إلى التدخل؛ ومع ذلك فقد ظلت الأرض الخصبة التي أزهر عليها المسرح التراجيدي أكثر من ثلاثة قرون هي عصره الذهبي دون جدال.
هل هذا ما يعني الأستاذ توفيق الحكيم عندما يقول بأن التراجيدية لا تقوم إلا على أساس ديني؟ إن كان ذلك مقصوده فإننا نوافقه كل الموافقة. ولكننا نأسف أن نرانا مضطرين إلى التصريح بأن التوفيق قد أخطأه دائماً عند الاختيار، لأن الأستاذ لعله يخلط بين الإيمان والعواطف الدينية من جهة، وبين جدل المتكلمين من أمثال أبي حنيفة، وإبراهيم النظام، وأبي الحسن الأشعري من جهة أخرى، فبدل أن يتخذ موضوع مسرحيته من صميم العاطفة الدينية وما يغذيها من أساطير، وكرامات، ومآس يؤمن المؤمنون بحقيقتها وواقعيتها إيمانهم بالتاريخ والحقائق الكونية، راح يبحث عن هذا الموضوع في الكلام والفلسفة السكولاستية.