أكثر الأدباء اليوم المتأدبين والمتذوقين للأدب بصورة عامة منغمرون في السياسة، وتتبع الحوادث الدولية، وما يجري خلف كواليس الأمم الكبرى التي تريد أن تقرر مصير الشعوب والإنسانية بالحق والباطل، لذلك فهم بعيدون عن تتبع النشاط الفكري والحركات الأدبية في البلدان العربية والشرقية بصورة خاصة. ولعل لهم العذر، وقد يكون العذر واضحاً لعدم اطلاعهم على الصحف الأدبية التي تمثل النتاج الأدبي في تلك الأقطار من جهة؛ وانغماسهم في المادة وتفضيلهم صرف المال في سبيل البطن والكماليات من جهة أخرى. كأنما الكتابة ضرب من الجنون لا يجب على المتمدين مزاولته، فلهذه الأسباب أقول إن أكثر الأدباء والمتأدبين - إن لم أقل كلهم - لا يعرفون عن الأدب السوداني الحديث - وخصوصاً الشعر منه - شيئاً، كما أنهم لا يدرون من هم أبطال النهضة الشعرية وروادها في هذا العصر - وعلى سبيل المثال أقول إن الكثرة الغالبة من أدباء العراق لم يسمعوا بشاعر الشباب السوداني التيجاني رحمه الله وهم حتى الآن لم يعرفوا أن له ديوانا موسوماً بـ (إشراقة) طبع مرتين فكيف بالأحياء - لهذا ولما كنت من المتتبعين للنهضات الفكرية الحديثة في البلدان العربية وخصوصاً السودان المصري ولي مع أدبائهم وشعرائهم صلات أخوة كريمة وثيقة - أرجو أن لا تفصم عراها الأيام - أحببت أن أقدم في هذه العجالة الخاطفة نماذج من الشعر السوداني الحديث على أن أتبع هذه المقدمة بأحاديث أخرى في المستقبل القريب إن شاء الله. وعليه توكلنا ومنه القوة والعزم
وأولى هذه النماذج هي لزعيم الشعر الإيداعي المرحوم التيجاني يوسف بشير
ولد شاعرنا في أم دومان سنة ١٩١٢م وهو أحمد التيجاني ابن يوسف بن بشير بن محمد بن الإمام جزري الكتيابي والكتياب بيت مشهور من بيوت السودان ممتاز بين قبائل الجعليين الذين عرفوا بالإقدام والسماحة، ولقب بالتيجاني تيمنا بالطريقة المعروفة، دفع وهو صغير إلى خلوة عمه الشيخ محمد القاضي الكتيابي فحفظ القرآن ومشى بعد ذلك في طريقه المرسوم إلى المعهد العلمي في أم درمان حتى تخرج منه ثم اتصل بالصحافة بعد