القرآن الكريم حجة الله البالغة على عباده؛ وموضع الحجة القاهرة فيه إعجازه الخلق. وينبغي إلا يكون إدراك إعجازه موقوفاً على فصحاء العرب ومن لف لفهم، فإن الإنسانية كلها مخاطبة به، مطالبة بالتسليم له أنه كلام الله ليس لآدمي فيه كلمة ولا حرف. والإنسانية أعجميها أكثر من عربيها، ومع ذلك فلا بد من أن يتضح إعجاز القرآن لكل إنسان، ولو كان أعجمي اللسان، لتلزمه حجة الله إن هو أبى الإسلام.
هذا النوع من النظر والتفكير يؤدي إلى نتيجة لازمة: أن لإعجاز القرآن نواحي غير الناحية البلاغية، وغير ناحية التنبؤات التي كانت في ضمير الغيب حين نزل القرآن، ثم حققها الله فعلاً فيما استقبل الناس من زمان.
الواقع أن موضوع إعجاز القرآن لا يزال بكراً برغم كل ما كتب فيه. لكني لست أريد أن أتناوله في هذا المقال إلا من تلك الناحية التي لا يتوقف تقديرها والتسليم بها على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد. هذه الناحية العلمية من الإعجاز.
وإذا فهمنا الناحية العلمية على أوسع معانيها فإنها تشمل كل ماعدا الناحية البلاغية من النواحي: تشمل الناحية النفسية وكيف اقتاد القرآن النفس ويقودها طبق قوانين فطرتها؛ وتشمل الناحية التشريعية وكيف نزلت أحكام القرآن طبق قوانين الفطرة للأفراد والجماعات؛ وتشمل الناحية التاريخية التي لم يكن يعلمها البشر عند نزول ما اتصل بها من آيات القرآن ثم كشف عنها التنقيب الأثري بعد؛ ثم تشمل الناحية الكونية ناحية ما فطر الله عليه غير الإنسان من الكائنات في الأرض، وما فطر عليه الأرض وغير الأرض في الكون.
هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث. ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها على استظهار أسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعاً. ولا غرابه في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعاً، فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو