نعى العراق هذا الأسبوع شاعره الباقي، فوجمت لمنعاه ألسن، وجزعت لفقده نفوس! ثم قرأنا أن بغداد قد غسلت شاعرها الراحل بالدموع وشيعته بالحسرات، وكنا قرأنا من قبل أن الرصافي في أعقاب عمره كان يطلب الغذاء الكفِيّ فلا يجده، ويلتمس الدواء الضروري فلا يناله!
لفظ معروف الرصافي أنفاسه الأخيرة في حجرة مظلمة مقرورة لا
يلطف جهومتها نور ولا نار، ولا يخفف وحشتها خليط ولا جار؛ ولم
تقع عينه الشاخصة وهو في نزاع الروح إلا على ورقة هنا وكتاب
هناك، أو على خادمه الأمين يتماسك لحظة ويتهالك أخرى، والدنيا
التي صحبها الشاعر سبعين عاماً يدل على جمالها العيون، ويغري
بمتاعها الأفئدة، لم تُجد عليه ساعة الوداع بيد رفيقة تغمض عينيه، ولا
بعين حبيبة تذرف دمعة عليه!
كان الرصافي - أحسن الله إليه - لسان العراق الصادق، ينقل عن شعوره، ويترجم عن أمانيه، ويحدو لركبه المجاهد في سبيل استقلاله وعزته بالحداء الحماسي المطرب، ويصور خلجات نفسه ووساوس أحلامه بالشعر الصريح المعجب؛ وظل هو والزهاوي وشوقي وحافظ ومطران حقبة من الدهر يؤلفون الأوتار الخمسة لقيثارة الشعر العربي الخالص. ولكل وتر درجته في الرنين والجهارة والأثر.
والرصافي أشبه بحافظ من الزهاوي بشوقي. وإن شئت فقل كانا الوترين الرابع والخامس في القيثارة: صوت عريض ضخم، وذبذبة ضيقة محدودة.
كان هذان الشاعران يتشابهان في أسلوب العيش وأسلوب الفكر. كانا صدًى لهتاف الجمهور في السياسة والاجتماع، ورجعاً لأنين المساكين في الألم والشكوى. وكانا يتقاربان في جوانب من ضيق الثقافة وقلة الاطلاع وبوهيمية الحياة. ولكن الرصافي كان متميزاً على