تستند الخطابة إلى الإقناع والتأثير، فلها سبيلان العقل المقتنع والقلب المتأثر. وهي في كل أمة وعصر أتخذها الرومان في دور القضاء وساحات العدل دفاعا عن مظلوم، أو تبرئة لمتهم، أو إدانة لمسيء. واتخذها تاعرب في الجاهلية سجعاً لكاهن، أو عدة لواعظ، أو نصيحة لحكيم. كما فعل قس بن ساعدة الأيادي في خطبته المروية في كثير من كتب الأدب. تلك الخطبة التي ذكر الناس فيها بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج. وكما فعل أكثم بن صيفي في خطبته التي اشتملت على الموعظة الحسنة والحكمة البالغة.
واتخذها الإسلام في أول أمره نشراً لدعوة وتشجيعاً للجنود المقاتلة، وتأليفاً للقلوب، وتذكيراً للغافل، وتنبيهاً للخامل.
وتروج سوق الخطابة في المنازعات والخصومات عند اختلاف الرأي وتنوع الفكر وتعدد المذاهب، كما حدث بين العلويين والأمويين والزبيريين والخوارج، وكما حدث في إنجلترا بين المحافظين والأحرار، وكما حدث في أمريكا بين أهل الجنوب وأهل الشمال.
ومن الطبيعي أن يظهر عند احتدام الفكر واصطراع الرأي قوتان متعارضتان تمثل كل منهما رأياً معيناً. وهنا يظهر الخطيب في جانب، ويبرز في الجانب المقابل من يبطل دعوته ويبطل حجته.
ففي القرن التاسع عشر كان في إنجلترا غلادستون زعيم الأحرار وخطيبهم الذي لا يجارى. وأمامه في الخصومة بيكونسفلد لسان المحافظين ومدرههم.
ولا تجد الخطابة فرصة أكثر صلاحا لها وأحسن ملاءمة من الثورات العنيفة والتيارات القوية الشديدة. وقد تصنع الأقوال في خلال الثورات مالا تصنع الفعال. وأصدق شاهد على ذلك المجر في منتصف القرن التاسع عشر. فقد كمت النمسا الأفواه وألجمت الألسن إلا لساناً واحداً تأبى على القيد وامتنع على المقاومة؛ هو لسان كوشوت الزعيم المجري؛ فرحل عن وطنه مجاهداً في سبيله بجنان فتى ولسان عضب قوي. فأكرمت إنجلترا وفادته،