عندما كنت طالباً في مدرسة الزراعة بالجيزة كنت أتردد في أوقات فراغي على قهوة صغيرة بالقرب من الشارع العمومي يجري بجوارها جدول صغير وتتهدل فوقهاأغصان شجرة عتيقة. وكنت أعتبرها حلقة الاتصال بين الحضر والريف أو بين المدنية والحياة الساذجة البدائية. فبينما تكون جالساً في مقعدك البسيط تشرب القهوة في هدوء وتصغي إلى خرير الماء وتشم رائحة النبات إذ بك تسمع دوي ترام أو سيارة ويمتلئ أنفك برائحة البنزين والتراب.
وكان يتردد على هذه القهوة رجل بدين الجسم كروي الوجه بأنف أفطس وعيونصغيرة يلبس بدلا من المعطف حرملة من اللون الأزرق الكالح ويلف رأسه بشال قديم مهلهل. وكنا في ذلك الوقت على أبواب الشتاء. وكنت ألاحظ عليه مظاهر الجربعة. وأعتقدت أنه من أرباب المعاشات الفقراء. وأذكر أنني لم أذهب إلى القهوة مرة واحدة ولم أجده. أراه دائماً في ركنه المعهود بجوار باب القهوة منتفخاً في جلسته يدخن النارجيلة ويحتسي القهوة ويزعق بين فترةوأخرى على الخادم يصدر إليه أوامره الممضة. يصحب معه دائماً كلباً أسود بشع الهيئة من فصيلة الأرمنت. يزعج القهوة بنباحه الثقيل. كان سيده يبالغ في تدليله والإعتناء به. ويكلمه ببعض كلمات إنجليزية بلهجة سقيمة لا تتعدى قوله: كام هير جيمي كام هير ماي دير.
ولا أدري ما الذي دفعني إلى أن أهتم بهذا الرجل وكلبه وأدقق في ملاحظتي إياهما. مع نفوري منهما.
وذهبت مرة إلى القهوة فوجدت عويساً ماسح الأحذية يتشاجر معه. وكان الرجل يشتم الغلام بصوته العريض الوقح وهو منتفخ الأوداج محمر العين يبصق أماه بصقات متوالية. ورأيت الكلب ينبح ماسح الأحذية بشدة ويجذب بأسنانه طرف ثوبه. فتحاشيت التدخل بينهما وقصدت إلى مكاني بجوار الجدول ومعي كتاب الزراعة المصرية لأذاكر فيه. وجاء