للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

قصة سورية واقعة

النهاية. . . .

للأستاذ علي الطنطاوي

في ليلة قمراء من شتاء ١٩٢٩

بينما كان حيّ المهاجرين (في دمشق) يرفل في حلل الرخاء والترف، ويجر أثواب الدعة والنعيم، ويثب من الطرب، ويمشي على الذهب. . . وبينما كانت قصوره البُلْق تشتعل بالكهرباء فتأتي في الليل بالنهار، وشوارعه المتوازية الصاعدة إلى سرّة الجبل تتمايل أشجارها تمايل العروس، وتلوح أنوارها للعين، كأنها في تسلسلها وانتظامها حبال اللؤلؤ، ويسبغ عليها القمر حلة منسوجة من خيوط النور، وتتراقص على نسيمها المعطر نغمات الحاكي والمذياع. . .

. . . كان في الشارع العام الممتد على سفح الجبل، شيخ همّ، أبيض اللحية، متفكك العظام، مقوس الظهر، قد أخنى عليه الزمان، وحطمه الدهر، يسير منفرداً يتوكأ على عصا، لا أنيس له إلا ظله الذي يمشي معه، ينمو ويتطاول كلما ابتعد عن المصباح، ثم يضعف ويختفي، ثم يولد ظلّ جديد. ويبدأ قوياً واضحاً، كما تنمو الكائنات وتقوى، ثم يدركها الضعف، ثم تبيد لتأخذ مكانها كائنات أخرى أقدر منها على العيش، وأحق منها بالحياة. . . حتى بلغ (قصر الوالي)، هذا القصر الأبيض الفخم، المعتزل وسط الجنائن الواسعة، الذي يخطر أمامه الجندي الذي يحمي (حمى رئاسة الجمهورية. . .) فوقف على الدرابزين وجعل يحدق في القصر ويتأمل شرفه ونوافذه المضيئة، ويستمع إلى صوت الحياة الرغدة الناعمة ينبعث من غرفه وأبهائه، حتى علق بصره بغرفة بعينها ينبثق منها ضوء شديد، فجعل يحدق فيه حتى زاغ بصره وعراه شبه دُوار، فجلس على طرف الدرابزين وأمسك بحديده البارد، وألقى برأسه على كفه، وأنطلق يفكر. . . يفكر في دنيا بعيدة. . . بعيدة جداً، قد طم عليها لجّ النسيان؛ يعالجها بالذكرى، فيراها ينحسر عنها الماء، وتبدو له شيئاً بعد شيء، وتعرض عليه كما يعرض (فلم سينمائي) غريب عنه لا عهد له به، ولا صلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>