من هنا نشأ الخلل وعدم التوازن في كيان المدينة الحديثة: عدم التوازن بين الوسائل والغايات، بين التقدم العلمي والتقدم الأدبي، بين السلطة على البيئة والسلطة على النفس. هنا أصل العلل التي تعانيها هذه المدينة. هنا منشأ الأزمات الاقتصادية والهزات السياسية والمنازعات والحروب والأخطار التي تهدد عالمنا الحاضر بالهلاك والدمار
وهذا كله يظهر أنه لقدر التقدم الصحيح لا بد من مقياس آخر غير المقياسين اللذين ذكرناهما: مقياس أهم وأشد خطورة وأصعب من سابقيه تحديداً وتعييناً. هو المقياس الخلقي الأدبي: هو مقدرة المجتمع عامة، ومقدرة الأفراد الذين يؤلفونه، على التغلب على الهوى والطمع والاستئثار، هو احترامهم لكرامة الفرد وشخصية الإنسان
هذا التقدم الأدبي يظهر بمظاهر عدة: منها توفر الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية وضمان العدل في القضاء وتساوي الناس في الفرص وما إلى ذلك من المبادئ التي جاهدت الشعوب بالثورات حينا وبالعمل المستمر حينا آخر لتحقيقها. وكل مرحلة من مراحل تطور البشرية تتميز بالجهاد في سبيل أحد هذه المبادئ. أما المبدأ الذي يشغل مرحلتنا الحاضرة ويملأ أجواء عالمنا دوياً فهو العدل الاقتصادي فالاجتماعي: أي حسن توزيع الوسائل التي يهيئها لنا استثمار الطبيعة. لم تعد مشكلة البشرية عامة مشكلة الاستثمار بل مشكلة التوزيع. ولذا أصبح هذا المقياس الأدبي الذي نتحدث عنه أهم من حيث بقاء البشرية وتقدمها من المقياس الأول الذي بدأنا به
هذا العدل الاقتصادي والاجتماعي أصبح، من حيث المبدأ، أمراً مثبتاً، وإن اختلفت الشعوب في مقدار العزم على تحقيقه وفي اختيار الطريق المؤدية إليه. ولذلك غدا مفروضا علينا، في تقديرنا تقدم مجتمع ما، أن ننظر في الوسائل، وبالتالي في الفرص المؤدية إلى تقدمهم المادي والعقلي والروحي. ولكن هذا المقياس على أهميته، لا يصلح أن يؤخذ وحده؛