للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الحكم العدل]

للأستاذ محمود محمد شاكر

يسمع كل عربي ويقرأ أن بلاده في حاجة إلى (الدعاية) لها في بلاد الأجانب، وبخاصةً في أمريكا التي صارت اليوم ملتقى الأمم التي يسمونها الأمم المتحدة. وصارت هذه الكلمة حلوة على ألسنة رجال الصحافة العربية وعلى ألسنة رجال السياسة العربية، فكلهم يقول لك أو يكتب لك إننا تعوزنا (الدعاية) لبلادنا في الخارج. ولا بأس في أن يستحلى رجال الصحافة ورجال السياسة كلمة يديرونها على ألسنتهم، ويجدون في طمعها وفي نبرتها وفي جرمها لذة تحملهم على ترديدها واللجاج بها، ولكن البأس كل البأس أن يفضي استحلاء هذه الكلمة إلى استحلاء صب الملامة والتأنيب على أنفسنا، ونحت أثلاتنا بالتعنيف على ما نرتكب من تقصير في حق أوطاننا. ولو كان ذلك التقصير حقاً محضاً لا يعتروه رأي ينقضه، لكن كثرة اللجاج فيه عملاً لا خير فيه البتة. ومع ذلك فلنفرض إنه حق محض، فما وراء ذلك؟

نعم إنه لحسن أن نظهر الناس على وجه الحق في مطالبنا، وعلى بشاعة الظلم المضروب علينا؛ وحسن أن ندعو الناس إلى سماع حجتنا؛ وحسن أن نزيل من أوهام ألئك الخلق ما علق بعقولهم عنا؛ وحسن أن نبدي لهم حقيقة أنكروها أو أنكرتها علينا السياسات فصدقوا السياسات وكذبوا أعينهم وأسماعهم. كل ذلك حسن، ولكن ليس بالحسن أن نأخذ الأمور من أقفائها لا من وجوهها، وأن ندع الرأي البين إلى الرأي الخفي، وأن نغفل الحقيقة الواقعة ونبصر الرجاء الذي لا يدري المرء أيتحقق له أم لا يتحقق.

فمسألة (الدعاية) تكاد اليوم تكون منصبة كلها على الدعاية في (أمريكا) إذ لا سبيل إلى الدعاية في روسيا بحال من الأحوال، وبريطانيا هي طرف النزاع في مسألة مصر والسودان ومسألة فلسطين وفي سائر المسائل الشائكة التي يعاني العرب منها ما يعانون؛ وكذلك شأن فرنسا في مسألة بلاد تونس ومراكش والجزائر، فلم يبق إلا أمريكا، وهي التي يدور حديث رجال الصحافة ورجال السياسة في وجوب الدعاية لقضايانا في أرجائها.

فلننظر إذن إلى جدوى هذه الدعاية علينا هناك، وفي أماكنها قبل جدواها، وفي حقيقتها قبل جدواها وإمكانها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>