ترجم صديقي الدكتور عبد الوهاب عزام بعض الأبيات الفارسية للشاعر الهندي العلامة الصوفي الكبير الأمير خسرو في (الرسالة)، فأثارت الترجمة في نفسي ذكرى ذلك العبقري العظيم أياما كنت أطالع بعض دواوينه وأحاول أن أقيس عظمة عبقريته في الصغر بفهم غير ناضج وإدراك غير كامل فكانت تفيض عن سعتهما، فكنت أستعين بمسامرات الإخوان ومحادثات الأقران. واليوم بعد نضوج الفهم حين أحاول قياسها أرى أن استقصاء جميع نواحيها لا يزال من غير المستطاع لي، وإن كانت لذلك أسباب إخرى، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. أحب أن أبلغ اليوم بقدر الإمكان رسالته إلى (الرسالة)، إذ حياة العظماء والأدباء رسالة وقدوة للأجيال في كل مكان وزمان، وأنثر أزهار الحديث عنه على مرقده الخالد الحي وهو ذكراه في القلوب
ولد الأمير خسرو في الهند في مدينة بطيالي بقرب دهلي في سنة ٦٥٢ هجرية من سلالة عريقة في الشرف من الأتراك المهاجرين إلى الهند من مظالم جنكيز خان في وسط آسيا. فكانت قبيلته المسماة (لاتشين) تسكن في بلدة تكش في ولاية ما وراء النهر، قد هاجرت إلى الهند عند هجوم جنكيز خان؛ وكان أبوه سيف الدين محمود رئيس تلك القبيلة. وكان في الهند حينئذ شمس الدين التمش ملكاً من ملوك المماليك، فرحب بجميع المهاجرين وأكرم وفادتهم. وأما أم خسرو فكانت بنت عماد الملك وزير الحربية للسلطان بلبن. وقد روى أمير خوند في كتابه سير الأولياء عن والده أن في جوار والدي الأمير خسرو كان يسكن صوفي كبير مسمى (أمير لا تشين) فلما ولد خسرو حمله والده ملفوفاً في القماش إليه، فقال الصوفي:(أنتم جئتم إلى بمن سيسبق خاقاني (الشاعر الفارسي الشهير) بدرجتين؟
مات أبو خسرو وهو في السابعة من سنة، ولكن أسرته كانت مثرية فلم تهمل تربيته وتعليمه، فتربى خسرو في دهلي، وكانت دهلي إذ ذاك حاضرة الحكومة منذ ثلاثة أرباع قرن، فكانت مركز العلوم والفنون، ومحور الحضارة والمدنية، ومأوى الفضلاء والعلماء، ومطمح أنظار أهل الفن والصناعة مما يجعلها ثانية في الأهمية لبغداد. في هذا الوسط