للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أبو إسحاق الصابي]

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

بعثني إلى الكتابة عن أبي إسحاق الصابي رغبة حافزة في أن أربط بينه وبين أبي الفرج الببغاء أديبين عفى عليهما الدهر، ثم أراد لأدبهما بعثاً، كما ربطت بين روحيهما أواصر الأدب، فتعارفا متباعدين وتآلفا متقاربين، فقد قدمنا أن الصلة بينهما كانت في الحياة وثيقة العرا محكمة الحلق، لم تشبها شائبة حفيظة، ولقد جعلني الحديث عن أبي الفرج على ذكر متصل بأبي إسحاق لا يبرح أفق تفكيري ولا يحيد عنه، ولا يريم عن محيط ذهني ولا يقصو دونه. ولعل من أهم عوامل علوق أسمه بذاكرتي، ورسوخ شخصه في مخيلتي، أن حظه في دنياه كان كحظ صنوه، بل إنه كان أسوأ من أخيه جداً وأنكد دهراً، وأتعس رجاء وأملاً، فكلما تقدم به الأجل وأشرق له الأمل أدركته حرفة الأدب، فتضاعف عليه الألم، لا يغني عنه ما أوتى من ألمعية نادرة، ولا يصرف صروف الدهر دونه ما وهب الله له من مواهب فياضة زاخرة، فغير الدهر تنصب عليه انصباباً، ونوبة تتقاذفه تقاذفاً، وأحداث الزمان تتعاوره كهلاً أناخ به المشيب، وخطوبة تتناوبه شيخاً بما لا يقوى عليه الفتى الصليب. وهكذا دواليك: غمرات تترى، ونكبات تتوالى، ولا يجد على تعاقب الليالي إلا ضيماً، وتسومه الأيام بكرها خسفاً وظلماً؛ حتى أنشد وأنشد وتمنى، فكانت المنية هي أصدق المنى، فلله هو إذ يقول:

إذا لم يكن للمرء بدّ من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد

وأصبعه ما جاء والعيش راتع ... تطيف به اللذات والعيش مسعد

فإن أك شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد

وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غِبا واحداً لهما الغد

وما زال هذا شأنه لا يحول حاله إلا إلى سوء، وذلك ديدنه لا يتغير أمره إلا إلى غير، وهو يندب جده آنا وآنا، ويشكو بؤسه حيناً وحينا، فلا يجد لشكواه سكينة أو أونا، ولا يعرف إلى الحين مهيعاً أو سبيلاً؛ حتى صار ملجأ أمراض وأسقام، ومحط أوصاب وآلام. وهاهو ذا يشكو زمانته، وآثار الهرم في كيانه وحاجته إلى محفة يتخذها بدل قدميه اللتين ناءتا بحمله، وشاركتا الدهر في استثقال ظله، وقد بعث بقصيدته تلك إلى الشريف الرضي، وقد

<<  <  ج:
ص:  >  >>