علم رسول الله بالنّازلة الجليلة، فغشيه من الحزن ما لم يستطع ردّه، وشاع في نفسه الهمّ الشديد حتى ليبدو للعيان في صفحة وجهه الوضاء.
إن بينه وبين فقيد اليوم قربة الروح والدين فوق قرابة الدم. . . فالفقيد هو جعفر بن أبي طالب أحد (الرّفقاء النجباء) الذين يعتز بهم ويشيد بفضلهم؛ وفي سبيل دعوته الناشئة آثر الاغتراب في البلد النازح على الإذعان لأعداء الدعوة في أرض الوطن، فتحمل بزوجه إلى الحبشة، حيث جعل الله على يديه إسلام عاهلها ومن تبعه. والفقيد من أبرّ الناس بالمسلمين، و (أبو المساكين) كما هو يكنيه؛ وهو أحرص الناس على الأخذ بأخلاقه حتى ليبدو أشبه الناس به خُلُقاً إلى كونة أشبههم به خَلْقاً.
وهو بعدُ ابن عمّه. . .
لقد كانت أوبةُ جعفر من مُهَاجره قريبة العهد، فما انقضى عليها غير عام وأربعة أشهر. ولقد آب يوم فتح الله على رسوله والمؤمنين حصون (خيبر) بعد عراك وجهد، فكان الرّسول صلى الله عليه وسلم في غمرة الأفراح يقبّله بين عينيه، ويلتزمه، ويقول:(ما أدري أيّهما أنا اسّر؟ بفتح خيبر أنم بقدوم جعفر؟) ويقول له كذلك: (أشبهتني خُلُقاً وخَلْقاً) فكانت نشوة الفرح والاعتزاز بهذه العواطف وهذه التشريف تأخذ جعفراً حتى ليرقص من فرط الطرّب والسّعادة.
فوا أسفا! أأقبل حعفر ليدبر؟ أتحقّقت لقلب الرسول رجيّته ليثكلها بعد حين قليل؟ يا رحمتاه لهذا القلب!!
ولقد كان جعفر أمس القريب حين خرج مع السّريّة يكلم رسول الله في ألا يقدَّم عليه زيد بن حارثة، لا إيثاراً لنفسه على زيد، ولكن رجاوة السّبق إلى لقاء المكاره في سبيل دينه. . . واستصغاراً للنّصيب الذي فرض له من أعباء الجهاد؛ ورغبة حارة في أحسن بلاء يتاح لمسلم.
فأين أمس، حين النبيّ يجيبه:(أمض، فأنك لا تدري أي ذلك خير)، وحين النبي في توديعه هو والجيش، وحين المسلمون ينظرون إليه وإلى الغُزاة نظرة الأمل، ويدعون لهم أطيب