عالجت الرسالة في بضع عشرة مقالة آلام الجوع وآثام الفقر وما ينجم عنهما من مآسي الحياة؛ وكان في ظننا يومئذ أن الناس متى هذبتهم المعرفة وصقلتهم المدنية يصبحون أعلم بحكمة الله، وأفهم لسياسة الدين، وأجدر أن يحكِّموا العقل والعدل فيما شجر بينهم على قسمة الدنيا وغلة الأرض؛ ولكنا تركنا الموضوع قانطين من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تبعد عن البكاء والاستبكاء، مادام الحكم لأيدي الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء، والغَلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. وقلنا ونحن نمسح عن القلم سواد الحظوظ: لا يزال في قدر الله أن يكابد بنو آدم عقابيل البهيمية الأولى، فيوطأ الواني، ويُسترق العاني، ويؤكل الضعيف، ويكون هنا الطمع والكزازة والأثرة، وهناك الحسد والحزازة والثورة، ثم لا يفصل بين الواجد والفاقد غير الحرب. فالحرب لا تنفك مشتعلة بين الفرد والفرد، وبين الأسرة والأسرة، وبين الأمة والأمة، بالقول أو بالفعل، وفي السر أو بالجهر، حتى يتدارك الله عباده فيهيئ نفوسهم لفض هذه الخصومة، بغير هذه الحكومة
والخصومة بين الناس أولاً وأخيراً هي المادة؛ والنكبة الأزلية على النظام والخُلق هي الفقر؛ وكل ثورة في تاريخ الأمم، أو جريمة في حياة الأفراد، إنما تمت بسبب قريب أو بعيد إلى الجوع. حتى الشهوة: شهوة الغرام أو الانتقام لا تقع في تاريخ الجناية إلا في المحل الثاني بعد الجوع، لأنها لا تكون إلا عرضاً من أعراض الشِّبع. من أجل ذلك جاء دين الله يخفف عن الفقير بالإحسان والعدل، ويدفع عن الضعيف بالمودة والرحمة؛ ولكن عُرام النفوس كان أقوى من أن يرده الثواب المغيِّب والعقاب المؤجل، فنبت على أمر الله، وعللت نفسها بالنجاة من باب التوبة المفتوح، ومن طريق المغفرة الواسع. ثم حاولت فلسفة الناس أن تجد سلام المجتمع في أنظمة متناقضة يدفع بعضها في صدر بعض؛ فوقع العالم من جراء النزاع بين الفردية والاشتراكية، والصراع بين الدكتاتورية والديمقراطية، في حرب عنيفة رعناء لا تأصرها آصرة، ولا تدركها شفقة، حتى أكلت من أمة الأسبان وحدها مليوناً وربعاً من شبابها الآمل العامل؛ ثم أخذت تخمد في هذا الميدان الضيق المحدود لتستعر في ميدان لا حد لعرضه، ولا نهاية لطوله: هو العالم!