ابتليت في هذه الأيام أن أختلف إلى بعض الوزارات في شأن من شؤون الرسالة. وأشيد الأمور على نفسي أن أغشي دواوين الوزارة أو أقسام الإدارة، لأني اعتقد كما يعتقد أمثالي من السوق الأحرار أن الحكومة من الأمة بمثابة الرأس من الجسد، فيه التفكير والتدبير والقيادة، وليس فيه الاختيال والشموخ والسيادة. ولكن الحكومات في أمم الشرق لا تزال تعتقد أن الرأس معناه أن يوضع فوق الجسم ليسمو على أعضائه ويعيش على غذائه. فإذا دخلت دورها لا تجد فيها الروح الوطنية التي تبعث الحياة العامة، ولا الفكرة الاجتماعية التي تدير المنفعة المشتركة، وإنما تجد بها مظاهر شتى للسلطان الجبار والبيرقراطية الصلفة تعطل معنى الإصلاح وتبطل حقيقة العدالة.
ترى أول ما ترى من الشرطة والسكرتيرين والحجاب والسعاة يسد أبواب المكاتب، ويملأ مدارج الطرق، ويشغل فراغ الحجر؛ وهذا الجيش الذي يكلف الخزانة لا ادري كم من المال لا عمل له إلا بث الرهبة وإظهار الأبهة والحيلولة بين الناس وبين القائمين على (مصالحهم) من أولي الأمر. فإذا ساعفتك الفرصة أو ساعدتك اللجاجة فنجوت من شراسة الشرطي أو الحاجب، وخلصت من غطرسة السكرتير أو الكاتب، دخلت على الموظف الكبير بهواً كأبهاء القصور، فرش بالطنافس وأثث بالأرائك وزين بالتحف وأدفئ بالكهرباء وقام في صدره الحالي طرفة من طرف الأثاث يقولون إنها مكتب، ومن وراء هذا المكتب الفاخر كرسي وثير متحرك جلس عليه الموظف العظيم وثيابه تكاد تنشق من ورم الكبر ونفخة السلطة، فلا تستطيع من رهبة السلطان أن تكلمه، ولا يستطيع هو من عزة المنصب أن يكلمك.
هذه المظاهر القائمة على السرف والترف يجب أن تزول أو تخفف، لأنها تحيط الموظف بجو من العظمة المستعارة تزور له ذاته، وتفسد عليه حياته، وتجعل ميزانه الاجتماعي منصوباً على ضميرين مختلفين: يزن في بيته ولنفسه بضمير، ويزن في الديوان وللناس بضمير. ويا ويل ذي الحاجة إذا دخل على الموظف مكتبه وليس منسوباً إليه ولا معروفاً لديه ولا موصى به! أنه لا يجد إلا النظرة القاسية، والكلمة الجاسية، والإشارة المهينة، والهيئة الوقحة التي تصرخ في وجهه بهذه الجملة:
يا بعد ما بيني وبينك! أنا حاكم وأنت محكوم، وأنا (ميري) وأنت (براني). فإن احتمل