فشل العقل في السياسة كفشل القلب في الطب معناه الانخذال والانحلال والموت. وليس في مقدورنا نحن أصحابَ الكلام وأرباب الأقلام إلا أن نصنع ما يصنع صاحب القصر الأبيض في واشنطون ورب القصر المقدس في روما: نصوغ اللفظ والدمع مرائي ومآسي وأكاليل كلما فشل الضمير والعقل، فمات بفشلهما الحق والعدل، وكان لذلك ضحايا من الأمم والناس ذهبوا أشلاءً ودماء بين الألم والعَدم!
أُسدل الستار الختامي أول أمس على المأساة الفنلندية الفاجعة بعدما ظلت ثلاثة أشهر ونصفاً تمثل على مسرح من الجليد والدم اصطرعت عليه القوة والحق، والبغي والعدالة، والكثرة والشجاعة، والنذالة والحميَّة، والعالم كله يشهد هذا الصراع الهائل وهو شاخص البصر مشدوه اللب لا يملك إلا التصفيق للبطل والتصفير للنذل!
كان كل واحد من الفنلنديين أمام ستين من الروس! وكان هذا الواحد ضئيل الحظ من الميرة والذخيرة والسلاح والمدد؛ وكان هؤلاء الستون وراء صفوف متلاحقة من آلات الحديد والنار، ومع ذلك استطاع هذا الواحد أن يمعن في أولئك الستين تقتيلاً وتنكيلاً وأسراً، وهو يغوص في الثلج ويكز من البرد ولا يكاد يجد الدفء ولا القوت ولا النوم!
ذلك هو الإيمان الصادق الصابر الذي يأذن به الله أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. وتلك هي البطولة القائمة على عزة النفس وكرامة الجنس وإيثار التضحية وتقديس الوطن. فلو أن العقل السياسي في جارتي فنلندة ساعد هذه المزايا النادرة فنهضتا لمناصرتها، ومكنتا الحليفتين من مؤازرتها، لخنس ستالين خنوس الجبان، وذلّت البلشفية ذل الأبد!
حاربت فنلندة مكرهة ثم سالمت مكرهة. أكرهها أعداؤها على الحرب، وأكرهها أصدقائها على السلم، فدافعت عظيمة، ثم صالحت كريمة. والجاني عليها في الحالين هو فشل العقل فيمن عادى وفيمن صادق. فلو أن ستالين لم يصب باحمرار العقل في مفاوضته لفنلندة قبل الحرب، لظفر منها بخير مما ظفر به بعد الصلح. إنه اقتطع من الوطن الفنلندي مقاطعات عزيزة، ولكنه أخذها بعد أن جعلها المرشال البطل مانِرْهايم مقبرة هائلة، دفن فيها مائتي ألف جندي من الروس معهم ألف وخمسمائة دبابة وسبعمائة طائرة؛ وكل أولئك مكفن بهيبة