كان القصر العتيق يجثم كالحصن الجبار فوق صخرة عظيمة هائلة على سيف البحر. وكانت الشمس حينذاك تضيف للغروب وتنحدر رويدا من شارف السماء، إلى ما بين الأفق والماء. وقد سالت حولها أباطح الدم، وارتسم على جبينها الكلال والابن. ويشرف القصر أيضاً على الطرق الممتد إلى (برست) وعلى قارعة هذا الطريق تقع الميناء وقد أطلت من وزرائها سواري السفن ومداخنها مصبوغة بألوان الشفق الزاهي الجميل. . . ومن نوافذ القصر الضيقة بان البحر كأنه بساط من سندس وإستبرق تجري عليه السفن بقلاعها التي يهددها نسيم الأصيل فتتموج، وتداعبها الرياح الخفيفة فتترجرج. . . وتعلو من القصر المنيف قباب وأبراج شامخة في الفضاء تتحدى الزوابع العاتية والعواصف الهوجاء. . وتحف أغصان الأشجار اللفاء الوارقة بجدران تحركها الرياح العواتي فتبدو كضفائر جافة خشنة لطيف امرأة تضرب فزعا في الليل المدلهم. . . وعندما غسق الليل وأجن الكون في مسوحه الطاخي الأسحم، أترعت السماء سحاب ثقال منشئات تحركها العواصف الهوج في شدة وعنف. وعب عباب الرياح فهاجت الأمواج الصاخبة المزبدة فراحت تصطدم بصخرة القصر الهائلة وتنحسر عنها فيسمع لها زئير كزئير الأسد وهزيم كهزيم الرعد.
في تلك الأثناء كان الأميرال المركيز (دي بك هيلوين) جالسا إلى عضد صغير وضع عليه بضع رسائل عفى على لونها الزمن فاصفر وخال، وبضع زهور ذاوية ونوط قلادة وشريط من الحرير الأزرق، وبجوار هذه الأشياء صندوق صغير مفتوح من خشب الأبنوس المطعم بالعاج، كان ولا ريب يضم تلك الآثار الغرامية المتناثرة على النضد وتجلت إمارات الحزن على وجه الأميرال بينا لمعت عيناه فجأة ببريق الغضب المسحور.
وكان الأميرال رجلا رقيق البدن واهن العظم له وجه مغضن بارز العضام، وعينان غائرتان قد أنطفأ فيهما التألق والبريق، ويدان معروقتان عاريتا الأشاجع. وعلى الجملة كان بدنه المنهوك قد ذبل بفعل المرض الذي يفتك به فتكا ذريعا. ولقد فقد أميرال البحر العظيم قوة العزم التي كانت تسبح ثائرة في دمعه وتشع من عينيه، وخفت فيه ذلك الصوت