قال كليلة وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه؛ وكان دمنةُ قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقى الثعالب من زيغه وإلحاده عنتاً شديداً:
. . . وأعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تاماً لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم، والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح.
ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان لكذب كل إنسان؛ وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيراً فلا يكبر، ويثبت الكبير من الصواب على موضعه فلا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء.
قال دمنة وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن أربناً سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بإنقراضها، وكيف تكون القارعة؛ فقالوا: إن في النجوم نجوماً مذنبة لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض. فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء! قد والله خرفتم وتكذبتهم، ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب، والدليل على جهلكم هذا -، قالوا: وأرتهم ذنبها. . .!
قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء؛ فيقول:(كذبوا وصدقت أنا، وأخطأوا جميعاً وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن). ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها. وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبأوا به؛ فهو الأذل المستضعف؛ أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية. ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه؛ وما شر من هذا إلا هذا. وقالت العلماء: إن كنت حاكماً تشنق من يخالفك في الرأي، فليس