منذ خمسين سنة ونيف كنّا نقطن حيا من الأحياء الوطنية القديمة لا يزال يسمى الدرب الأحمر. ولعله اكتسب هذه التسمية من دماء المماليك التي انحدرت في مسالكه من باب القلعة إلى باب الوزير، عند ما استأصلهم الكبير محمد علي واستأصل معهم شأفة الفساد والشر. وكان المنزل الذي نقطنه على رحابة أرجائه كأنه سجن له فناء، ولا يطل منه على العالم الخارجي إلا نافذة واحدة طولها أمتار وعرضها شبر واحد، كنا ننصت منها على جلبة الشارع، فكنا إذا سمعنا مصطفى الزرّاب يغني بصوته الرخيم أطلقنا لأرجلنا العنان، واستبق بعضنا البعض إلى السلم ومنه إلى الفناء، ثم من الفناء إلى الدهليز؛ ثم من الدهليز إلى الدِّركة، فنرى عم جوهر جاثماً فوق السدَّلة فنحييه، ثم نقفز إلى الشارع. وكان الزرَّاب منادياً يأجره البعض إذا فقدوا شيئاً، فينادي عليه في الأزقة والحواري والمسالك. وذات يوم شهدناه ينادي عن معزاة فقدها جلاّد (بائع جلود) بجوار منزلنا. وكان رخيم الصوت يفتن في النغم ويخلق من مناداته شهي اللحن، فرأيناه ينشد المعزاة بلغة عربية تشوبها العامية المقبولة، وأخذ يسير ونحن وراءه، حتى إذا أشرفنا على جامع المرداني وتجاوزنا باب قسم الدرب الأحمر، انفتل يميناً إلى حارة الروم بعد أن صاح (يا عدوى)، وكان يختم بها كل نداء. فترك عربته وأخذ يقول:(يا خدرات الأروام: يا خواجات الخته: فيه واخد ميزه: أنده اتنين بلخه هينا (ويشير إلى جوزته) الشر بتاعه أخمر. البوز بتاعه أبيد. تمسك فلوس كويس لوجبته. يا خريستو) (بدلاً من أن يقول يا عدوى)
تذكرت هذه الحادثة بعد هذه السنين الطوال، وتذكرت مصطفى الزراب عندما قرأت في مجلة المصور مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية الذي خرج علينا به سعادة عبد العزيز فهمي باشا عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية خروج الزراب من عرينه أمام جامع المرداني، ينشد معزاته الضائعة: متوسلاً بالعدوى، إلى لاتينية الأعاجم عند ما انفتل إلى حارة الروم مستنجداً بخريستو، مستمداً منه العون. ولله الأمر من قبل ومن بعد
كذلك اعتقد كثير من الخرافيين في العصور الوسطى أن الشيطان قد تدخل في تصوير كرة