في رأيي أن تشدد عبد الله في اختيار وصفائه قد جعلوا في جنة ورافة من إخوانه ومحبيه، فكانوا قوة عينه وبهجة فؤاده، يهيم بأحاديثهم ويهيم بأخبارهم، ولم يؤثر عنه أنه ارتاب يوما من الأيام في أحدهم فظن الظنون، وهذه مزية التحفظ الشديد، ونحن نسمع في كل مكان من يندبون الوفاء، ويبكون النبل في الحياة، زاعمين أن الصداقة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فكل قرين يشكو من قرينه في الكثير الأغلب، وسبب هذه الضجة المفتعلة، أننا لم نفهم الفرق الواضح بين الصداقة والصحبة، فإذا صاحب إنسان زميلا وقدم إليه بعض المعونة الأخوية، قم وجد منه نفورا لا يتفق وما أسلف إليه من نفع، قام يندد بضياع المروءة والوفاء وأولى به أن يندد بنفسه، إذ لم يختر من يجزيه الإحسان بالإحسان، بل عمد إلى طينة سنجة، فغرس فيها بره ثم تعهده بالري فمات الزرع، وجف الماء، ولو أنه غرس معروفه في تربة مختارة منتقاة، لآتت أكلها ولم تنقص منه شيئاً، ولأبصر نفسه - كابن المقفع - في جنة مورقة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولكن فاته ذلك في حينه فهب من فوره يبكي المروءة ويندب الوفاء!!. . لا يا هؤلاء. . .
ونحن نعلم أن الأديب أو الفيلسوف أو كل ذي موهبة فنية، في حاجة ماسة إلى من يجاذبه أطراف الحديث، ويخوض معه في شتى الأبحاث، ولقد تألقت في عصر ابن المقفع كواكب لامعة في سماء الأدب، وكانت صلته بها صلة مودة وحب، فهو صديق الجميع يؤثرهم ويؤثرونه، وأنت تعجب كل العجب حين تراه يجمع بين صداقة المتناصرين والمتباغضين، فهو صديق حماد وبشار ووالبة وإبان ومطيع، ولا ريب أن عبد الله كان يلاقي كثيرا من الإرهاق والعنف بين أمزجة متباينة، ونفوس متصاولة، وكنت أسأل نفسي مرارا ألا يكون الجمع بين صداقةالأضداد مما يحدث لديهم الريبة في نفس عبد الله؟ وهل يطيب لبشار مثلا أن يبوح بسره لصاحبه وهو يعلم أنه صديق حماد؟ سؤال دقيق يتطلب إجابة دقيقة، وكأني بابن المقفع وقد أدركه تمام الإدراك، فأجاب عنه في ملاطفة هادئة حيث قال (وإذا رأيت صديقك مع عدوك فلا يغضبنك ذلك، فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك أو