للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[محاورات أفلاطون]

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأولاً إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رايتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشر قطعة، وهي مختلفة الألوان، فليس ما يصوره المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها، أما هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي اشد لمعاناً ونصاعة من ألواننا، فثم أرجواني عجيب الرونق، وثم ذهب يتألق، والأبيض في أرضها انصح من كل ثلج أو طباشير. تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي اكثر عدداً وأروع جمالاً مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، ولها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعا من التآلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة - أشجار وأزهار وفاكهة - اجمل - بنفس الدرجة - من إضرابه هنا؛ وثم تلال، صخورها اشد صقلاً، واكثر شفافية، واجمل لوناً - بنفس الدرجة - مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي أن هي إلا نثرات منها ضئيلة، فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالاً؛ وعلة ذلك إنها نقية، وإنها لم تفسدها ولم تبرها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما اليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعاً، فطوبى لمن يراها. ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليما داخلياً، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلد يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء. وجملة الأقول انهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا؛ هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>