للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[فكاهة لها مغزى]

لا أدري ما الذي أخطر ببالي في هذه الأيام هذه الواقعة المضحكة وقد

مضى على وقوعها ثلاثون سنة دون أن تجري على لساني أو تدور

بخاطري؟ اسمعها أولا ثم حاول بعد ذلك أن تعلل ورودها بما تشاء:

كان بلدينا الشيخ عبد الجبار خادم المسجد شموس الطبع طائش الحلم، يده أسرع من لسانه، ولسانه أطوع من عقله؛ ولكنه كان كسائر النزقين أبيض القلب سليم الصدر، لا تبطئ ريحه أن تسكن، ولا تلبث أناته أن تعود. ذهب ذات يوم إلى المنصورة يقبض مرتبه من مأمورية الأوقاف، ويمتاز لعياله من سوق المدينة. فلما كان عائدا إلى القرية، فوقه مظلته العتيقة، وتحته جحشته الريضة، قابله في مضيق الطريق حماران يسيران متوازيين وعليهما سماد الزبل والسرجين، فاقتحم العقبة من بينهما فصدم خرجه الأبجر أحد الحمارين فزال عن ظهره الغبيط. فاستشاط سائق الحمار وقال للشيخ في فوره غضبه: لا عجب ولا ملامة، خرج فوق خرج!! فوقف عبد الجبار دابته وصعر خده وقال للمتهكم الغضبان بلهجة المتحدي: ولم لا تقول حمار وراء حمار؟! فأجابه الفلاح وقد تنمر له وهم به: مخطئ وتسفه! ثم جذبه من ذراعه بقوة فسقط في حفرة، فبرك فوقه وأعانه شاب آخر وانهالا عليه طحنا بالصدر وعجنا بالأيدي، والمسكين تحتهما ملقى على ظهره، يضرب الهواء برجليه، ويحاول أن يدفع اللكم بيده؛ ولكنه كان أشبه بالسلحفاة المقلوبة، تحرك أطرافها ولا تتحرك، وتقلب رأسها ولا تقوم، حتى شاء الله الذي يؤخر النفس إذا لم يجئ اجلها أن يمر به في هذه اللحظة الشيخ عبد الرحمن، أخوه في القرآن، وزميله في الحرفة، وجاره في الحارة؛ فلم يكد يراه على هذه الحال حتى ترجل وانقض على الرجلين انقضاض النسر، فأزاح هذا بيمناه وذاك بيسراه، ثم أعمل فيهما يديه جميعا. ورأى الشيخ عبد الجبار صدره خفيفا فنهض كأنما نشط من عقال، وأسرع إلى حمارته فوثب عليها، وانطلق دون أن ينفض التراب عن ثوبه، ودون أن يقول للشابين بارك الله فيكما، وللشيخ عبد الرحمن السلام عليكم. . . وشفى غليله من الأنان فانحنى عليهما سبا باللسان وضربا بالعصا وطعنا بالمنخاس ولكزاً بالفخذين حتى بلغ الدار وصك رأسه الجدار.

وفي المساء أقبل الشيخ عبد الرحمن وعلى إهابه وجلبابه آثار المعركة فجمع له الناس

<<  <  ج:
ص:  >  >>