كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي، فوقع في دنياي أمرٌ مُفظعٌ مُفزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِي دهراً من عمره ثم أبصر. فأخذتني الحيرة أخذاً شديداً، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماء في مرجله على معركة من النار تشتعلً من تحته وتتسع، وتقاذفَتْني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتنزىَّ قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقذوفة من علُ، وهاجَ هَيجي واضطربَ أمري وتغولتنْي الأفكار الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تدْمَي أبداً، فلا تحسم الدَّم، وانقلبتُ بهمي أدورُ في نفسي دَورة المجنون في دنيا عقله المريض المشعِّث. وهكذا قًضَّيتُ ليلَ أيامي، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ
ودعوت ربي جاهداً، وكنت من قبل أدعوهُ، انه هو البرُّ الرحيم. . .، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعينيٍّ غلالةً من سرابٍ تخفقُ عليها وتميدُ وتتريعُ، وإذا الأرض غيرُ الأرض والناس غيرُ الناسِ، وإذا كل شئ يجئُ ويذهبُ، ويبينُ ويَخفى. . .، وفقدتْ الأشياء معانيها في نفسي، فما أرى إلا بؤساً وخَصاصة وجوعاً وعُرْياً، وإذا كلُّ شئ بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شئٌ. . . اللهم إني فوضت أمري إليك وألجأت ظَهري إليك. . . ومضيتُ أنسابُ في أياميَ البائسة، حتى إذا كان الليلُ في أولِه مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتاباً لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ.
فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضْجر واليأسِ، وغاظني ما غلبني على عقلي وإرادتي، فأهوبتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو:(إغاثة الأمة، بكشف الغُمَّة، للمقريزي). وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفاً أولَ إلا وجدتُ الألفاظ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍِ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةُ ودوياً وهداً شديداً شديداً، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة
وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيرهُ وزمجرة أمواجهِ في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدم يَفُورُ ويتوثب، وإذا صرخة تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي:(قم إلى صلاتك، فقد أظلتك الفجر!!). فانتبهت فزعاً وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة