تفشو الخرافة - وهي الاعتقاد بالمستحيل عقلاً - بين الجماعات الأولية، حتى تشمل ديانتهم وعلومهم وفنونهم القليلة، وعرفهم وتقاليدهم، لأن تلك الجماعات في نشأتها كالطفل في صغره، قليلة الإدراك للأسباب والمسببات، سريعة الانقياد للعواطف والأوهام والمخاوف، فلا تلبث أن تنمو بينها شتى الأساطير، تفسر بها قوى الطبيعة ومظاهرها، وتمجد بها أسلافها، وتدعم كيان مجتمعها. هكذا كان لقدماء المصريين خرافاتهم المتعلقة بواديهم ونهرهم، وآلهتهم وفراعنتهم؛ وكانت لليونان والرومان أساطيرهم التي تدور حول أعمال آلهتهم وحروبها، وحبها وغضبها.
وكانت للعرب خرافات شتى، انتزعت من حياتهم البادية، وما توحي إلى النفس من رهبة وبأس، بفلواتها وحزونها، وسباعها وأنوائها، وحيكت حول الآلهة والجن والغيلان، وحول أبطالهم وملوكهم وغابر دولهم، وتناولتها الأجيال المتعاقبة بالزيادة والتهويل، والتغيير والتبديل، في حوادثها ومشاهدها.
وكانت للإنجليز في عهود همجيتهم أساطير متشعبة، مشتقة من حياة أهل الشمال، المضطربة بين ظلمات الأحراج ومتون البحار، حافلة بأخبار هجراتهم وغزواتهم، ممتلئة بأوصاف شياطين البر والبحر، ممجدة لبلاء ملوكهم أمثال الملك آرثر، وألفرد الأكبر، في دفع هجمات المغيرين الذين تعاوروا الجزيرة على كر العصور، من رومان وسكسون ونرمانديين؛ وتمازجت أساطير كل هؤلاء، واختلط مسيحيها بوثنيها، وجنوبيها بشماليها.
والخرافة على ما بها من مجاوزة للمنطق وتهويل وتحريف واستحالة - لا تقل عن حوادث التاريخ صدقاً في وصف أحوال المجتمع الذي هي وليدته، والبيئة التي هي نتاجها؛ فالخرافة العربية التي نمت في البادية، مثلاً، ملأى بذكر الغيلان والسعالي والعنقاء، وبأسماء العدائين الذين يسبقون الظباء، والحديدي النظر الذين يرون القادم والمغير من رأس أميال، كزرقاء اليمامة. والخرافة الإنجليزية التي ترعرعت في الغابة ودرجت على أثباج اليم حافلة بحكايات عرائس الغاب وآلهة البحار، ومناظر الغسق والضباب.