على أن الخرافتين تلتقيان، والمخيلتين تتقابلان في نواح، حتى لتخال إحداهما صدى للأخرى أو محاكاة له، لولا بعد الأمتين في تاريخيهما بعداً يحول دون كل محاكاة أو اقتباس؛ فأخبار تأبط شراً، وسليك بن السلكة وأشباههما من شذاذ العرب وطريدي العرف والمجتمع، مماثلة لحكايات روبن هود وأصحابه الذين كانوا يعيشون على اقتناص الظباء في غابات ملك إنجلترا؛ وقصة مقتل أحد أقيال اليمن على يد أخيه الطامع في عرشه، التي وردت في كتب الأدب العربي وروى فيها شعر لشاعر يدعى ذا رُعَين، منه قوله:
واستشارة الخائن للعرّافين قبل اقتراف جريمته، والخدعة الحربية التي لجأ إليها جيش ابن الملك القتيل من استتار كل مقاتل بشجرة اقتلعها في طريقه وحملها أمامه، حتى بدا الجيش كأنه غابة تسير؛ كل ذلك مشابه للحوادث التي اتخذها شكسبير موضوعاً لروايته ماكبث، والتي تدور حول مصرع بعض ملوك اسكتلندا، وهي بلاد تشبه بوعورتها واستقلالها وبأسها وتأثيرها في عقول أهل إنجلترا، حالة اليمن في جزيرة العرب؛ وقد عبثت الخرافة بكلتا القصتين ونمقتهما بمظاهر السحر والتنبؤ بالغيب.
حتى إذا ما ارتقت الجماعة البشرية، وأخذت بأسباب العلم الصحيح، وعرفت الفلسفة المنطقي، واعتنقت ديناً راقياً، فترت حماستها لخرافاتها القديمة، وقل تصديقها لها، وسخر منها العلماء والفلاسفة الأتقياء، وهبطت إلى طبقة العامة، فوجدت فيهم وحدهم أمناءها الأوفياء، يتوارثونها كما توارثها آباؤهم من قبل، وتروي من نفوسهم ما لا تروي العلوم الجافة، فهم يؤثرونها على تلك العلوم، ويمزجون رواياتها بحقائق العلم تارة، ويخلطون عقائدها بعقائد دينهم الجديد الراقي تارة أخرى.
على أن أكثر الأمم، كاليونان والرومان وأمم أوربا الحديثة، حين بلغت طور نضجها العلمي والديني، لم تنبذ خرافات طفولتها ظهرياً، وإن بطل تصديقها برواياتها، وذهب إيمانها بخوارقها ومعجزاتها، ولكنها اتخذتها غذاء دسماً للعلم والفن؛ فجعلها العلم موضع فحصه وبحثه وتنقيبه، وأقامها مقام الشك حتى تثبت البينة على ما فيها من بذور الصدق؛ واستمد منها النحت والتصوير والشعر والنثر مادة لا تفنى للتفنن في الوصف والتأمل والتجوال في مشاهد الحياة ومرامي التاريخ ومنازع النفس الإنسانية.