كان للعرب في جاهليتهم حصن من جزيرتهم حفظها الله وحماها، وسور من حدود هذه الجزيرة المباركة. عاشوا في هذا الحصن الممنع كراما أعزاء، أحرارا مستقلين. لا يعلوهم سلطان ولا يخضعون لمن يحاول الاستبداد بهم، فظلت نفوسهم مطلقة على طبيعتها، وغرائزهم مرسلة على فطرتها. فجاء أدبهم مرآة لهذه النفوس وصورة لهذه السجايا. قوة في المعنى مع سذاجة، ورصانة اللفظ مع بساطة. يقذف إليك العربي الحر المستقل العزيز الكريم بقطعة من الشعر فتجد نفسه مجلوة في هذه القطعة، كما يجلي وجه الحسناء في المرآة المصقولة، فتشرق عليك بقوتها وبساطتها إشراقة الشمس، لا يشوبها ضعف ولا يشوهها استسلام.
وهل يمكن أن ترى للضعف ضلا فيما يصوره ذلك العربي من صورة نفسه في أدبه وهو لم يضعف أمام ظالم ولم يخضع لطاغية غاشم.
هذا امرؤ القيس الذي كان مغموسا في ملذات الشباب مدفوعا في تيار الملاهي والمسرات، يقتل أبوه الملك، فينعاه إليه الناعي فلا تضطرب نفسه ولا يجيش فؤاده، بل ينهض للأمر العظيم وقد نسلى ملذات الشباب وملاهيه، يأخذ بثأر الملك القتيل ويسترجع صولجان الملك الضائع. هدف عظيم يثير في هذه النفس العظيمة قوة العراك والمغالبة، فيندفع هذا المغيظ المحنق، المفجوع بأبيه وملكه، بكل ما في نفسه من شدة وعنف وصرامة، يكافح الصعوبات التي كانت تقف في سبيله شامخة مستعلية، ويقاوم العقبات التي كانت تعترض طريقه متجبرة متكبرة
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ظل يحاول تذليل الصعوبات وهدفه العظيم يثير في نفسه القوة والثقة بالنفس ويحاول إخضاع العقبات وغايته السامية تبعث في روحه الأمل في النصر.
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا