قد وعدنا أن نحدثك عن خيال دانتي في الانتحار والمنتحرين وعما وصف به ما هم فيه من عذاب. فلعلك على ذكر من أن أبا العلاء لم يتبع سبيل الخيال إبان ذلك، بل سلك طريق الحكماء، ولعلك على ذكر أيضاً من تعليله. فأما دانتي فقد انتحى نحو الخيال يستمد منه الزراية بالانتحار والمنتحرين، فبينما هو في الدرك السابع من جهنم إذ رأى غابة موحشة، أشجارها متجعدة الأغصان، متجردة إلا من أشواكها المسممة الأطراف، وقد ملئت وحوشاً أنصاف جسومها في زي الأناسي، وأنصافها الأخرى على هيئة طيور، وهي ترفع صوتاً تنخلع منه القلوب عن أبدانها، فسار في جنبات تلك الغابة على خيفة من وحوشها، وهو يسمع أنات وزفرات لا يعلم طريقها، فسأل عنها فرجيل فأجابه: أن اقطع طرفاً من هذه الغصون لعلك تتعرف تلك الأنات، فصدع بالأمر، وامتدت يده إلى غصن لم يكد يجتذه حتى نطقت له تلك الشجرة صاحبة الغصن قائلة: لم نزعتني؟ أليس في حنايا قلبك شيء من الرحمة؟ لقد كنا رجالا مثلكم، وقد صرنا نباتاً، فأما شجرات تلك الغابة فهم المنتحرون نبتوا اشجاراً كان مأواها جهنم وبئس القرار وأما تلك الشجرة التي قطع دانتى غصنها فهي الشاعر (بيير ديللي فيني وقد كان في حياته الدنيا مستشاراً لحكومة الإمبراطور فردريك الثاني، فخدم مليكه مخلصاً في خدمته، ولكن السنة السوء عبثت به فتقولت عليه الأقاويل، فأصاخ لها الإمبراطور وفقأ عيني مستشاره، وألقى به في ظلمات السجن، فأكبر بيير ما حاق به وهو الشاعر الملتهب العاطفة، فضرب برأسه في جدران السجن ضربة أودت بحياته، وختم أيامه بتلك الجريمة الكبرى، فلم يك ينفعه إخلاصه، ولم تك تنفعه أمانته، بل دخل النار مع الداخلين، وكان شجرة في تلك الغابة الموحشة التي تنخلع لهولها القلوب.
في الطريق إلى الفردوس
لقد كان طريق الفردوس في خيال المعري مليئاً بالمفاجآت الطريفة، وبالدعابة الساخرة، ينبعث من كل عبارة فيها ما يضحك الثكلى. وسندع ابن القارح يقص علينا حديث ذلك