للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أغنية]

للأستاذ أحمد أمين

تعجبني أحياناً بعض الأغاني الشعبية، إذ أراها تمثل روح الشعب وآماله وآلامه - وأراها أصدق في وصف الحياة المتنوعة مما يفعل أدباء اليوم، فكل أغانيهم لا تمثل إلا عاطفة الحب البائس، وما يتبعه من ألم ممض، ولوعة مضنية؛ أما الأغاني الشعبية ففيها الحب البائس، والحب الباسم، وفيها التغني بالبطولة، والشكوى من الظلم

أحياناً فيها فلسفة اجتماعية كالأغنية التي سأعرضها اليوم؛ ومرماها تصوير الهيئة الاجتماعية في صورة الجسم الواحد تتعاون أعضاؤها لتحقيق المصلحة العامة - وهو معنى عرض له الفلاسفة والأدباء في الأمم المختلفة قديماً وحديثاً - فمثّله اليونان مرة بإضراب أعضاء الجسم. قال القلب: لماذا أوزع الدم على سائر الأعضاء ولا ينالني أنا منه إلا قطرات؟ فلأضربَ. وقالت المعدة: ولماذا أهضم أنا أيضاً الأكل كله وليس يصيبني منه إلا قليل، أفما كان الأولى ألا أهضم إلا ما ينالني؟ فلأضرب. وقالت الأسنان: ومالي أنا كالطاحون تطحن دائماً ولا ينالني من الغذاء إلا قدر السمسمة؟ فلأضرب. وقالت الرجل: وأنا دائبة السعي يميناً وشمالاً وليلاً ونهاراً في جمع العيش وتحصيل القوت، ثم حظي من كل هذا فتات الموائد؟ فلأضرب. وقال كل عضو هذا القول أو شبهه، فأضربت الأعضاء جميعاً، فلا الرجل تسعى، ولا اليد تحمل الغذاء إلى الفم، ولا الأسنان تمضغ، ولا المعدة تهضم، ولا القلب يوزع

ثم بعد قليل شعرت المعدة بالجوع ولم تستطع الرجل المشي ولا اليد، أدركت كلها أنها سائرة إلى الفناء السريع، فاجتمعت على عجل وقررت فض الإضراب إذ رأت أن كل عضو يعمل لنفسه ولغيره، وان غيره يعمل لنفسه ولغيره، فالغرم بالغنم والربح على قدر الخسارة

ولحظ هذا المعنى شعراء العرب فقال أبو العلاء المعري فيه:

المرء كالنار تبدو عند مسقطها ... صغيرة ثم تخبو حين تحتدم

والناس للناس من بدو وحاضرة ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

وكل عضو لأمرٍ ما يُمارسُه=لا مَشيَ للكف بل تمشي بك القَدَم

<<  <  ج:
ص:  >  >>