يحق للحضارة العربية الإسلامية أن تفخر بما كان لها في عدوة الأندلس من تاريخ مجيد، فلقد كانت الحضارة الشرقية الإسلامية في المشرق يقابلها حضارة إسلامية شرقية في المغرب، ولم يظهر في المشرق عالم جليل أو محدث كبير، أو شاعر شهير، أو فيلسوف حكيم، أو وزير له خطر، أو أمير له قدر، إلا ظهر في المغرب من يدانيه علماً أو ينافسه قدراً أو يزاحمه محلاً
فلقد وقعت المفاضلة بين ابن رشد والطوسي، وبين ابن زهر الحكيم وابن سينا، وبين ابن فرناس والفارابي، وبين ابن هانئ الشاعر والمتنبي، وبين ابن زيدون والبحتري، وبين ابن عبدون والأصمعي، وبين ابن مروان البصري والمعري، فقد كان الشبه بين النظيرين في الفن الواحد قريباً، وكان الفرق بين المتماثلين غير بعيد
وكان حظ المدن من تلك المفاضلة ونصيبها من تلك المقابلة حظ الأتاسي من أهل العلم والنظر والجلال والخطر؛ فهذه بغداد في الشرق على نهر دجلة، وتلك قرطبة في الغرب على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير
ولقد أتيح لكثير من المؤرخين في العصور التالية لسقوطها أن يزوروا تلك المدينة الضائعة في ذلك الفردوس الإسلامي المفقود. وزارها في العصر الحديث اثنان من أهل النظر والرأي والأدب والعلم. هما الأمير العربي المسلم الغيور شكيب أرسلان والكاتب المصري الرحالة محمد لبيب البتانونب - صاحب الرحلة الحجازية ورحلة الأندلس
ووصف كل من الكاتبين المدنية الإسلامية على حالها اليوم، ثم تطرق بهما الحديث إلى ذكر تاريخها وشئ من أحداثها، وذكر الجامع العظيم فيها
رأى البتانوني قرطبة في العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي (سنة ١٩٢٧) فلاحت أمام عينيه عربية المظهر، شرقية المنظر (وشكل مبانيها يكاد يكون عربياً صرفاً)
ورآها الأمير شكيب بعد ذلك ببضع سنوات، وقد طحنتها رحى الفتنة حين تأليفه كتاب الحلل، وغيرها حلول المصائب والأحداث، واتصلت الشدائد على أهلها فلم يبق منهم بها