كان (جحشة) بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضى على الإقريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل (جحشة) لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة. لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأعيان، فيرتدي لباس الأفندية، ويأكل من طعام ألبك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء، مؤثراً من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى الغر - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبوراً:(سآتي قريباً ومعي الخاتم) ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها، والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت. . . رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيرة تنهشه نهشاً موجعاً. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض. وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا حلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قاله لها الغر:(سآتي قريباً ومعي الخاتم)، ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت له باحتقار:(هات لك قبقاب أحسن). فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القدر، وطاقيته المعفرة وقال:(هذا سبب شقائي وأفول نجمي). ونفس على (الغر) عمله وتمناه. . . على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعاُ من آماله بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينتظر القطار القادم.
ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادماً من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاءه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على أفريز المحطة. . . وهرع (جحشة) إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراساً مسلحين، ووجوهاً غريبة تطل