للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من استرعى الذئب ظلم]

للأستاذ محمود محمد شاكر

في سنة ١٩٢٧ عرفت رجلا إنكليزياً، فنشأت بيني وبينه مودة، وكان رجلاً حريصاً على أن يعرف أشياء كثيرة، على وجهها الصحيح، وكان صادق اللسان فيما يبدو لي منه، وإن كنت قلق الشك في صدق اللسان الإنكليزي! وكان لطيف المعشر طلق المحيا، فيه دعابة رقيقة لا تبلغ العنف ولا يتجاوز بها حدها. وبقينا معاً سنة كاملة؛ فكان كأكمل الناس أدباً، وأركنهم عقلا وأبعدهم عن الملاحاة والمغاضبة وسوء العشرة. وكان إذا تقصى مني أمراً أخلصته القول، فقد ظننت أني جربته وعرفته ونفذت في طوايا ضميره. وكان هو يحدثني فلا اشك أبداً أنه كسائر أهل جلدته، بل كان خلقاً غير الخلق منهم، فهو يقول ويعني ما يقول، وليس كأمثالهم يتسلل من إهاب ليدخل في إهاب. ولم أزل اطمئن إليه وإلى حديثه وإلى بثه ما في نفسي ونفس بلادي من شعورٍ، فكان لا يتردد في إعطاء الحق لمن كان له الحق، ولا يرضى أن يكون ظالماً ولا متعنتاً ولا مدافعاً بالعصبية والكبرياء أو المماراة.

وفي سنة ١٩٢٨ جاءت امرأته من بلادها ودعاني مرات فما لبثت أن رأيت هذا الرقيق الوديع المنصف ينقلب خشناً جريئاً على الباطل جائراً في الحكومة، متعنتاً فيما كان بالأمس يعطي النصفة فيه، وإذا هو شديد اللدد تياه الخصومة، وإذا هو ينسلخ من إهاب ليدخل في إهاب كفعل سائر قومه، فكان ذلك آخر عهدي به، وكان من عاقبته أني كرهت هذه الإنكليزية العجيبة التي يقال فيها ما قال الشاعر: (كالعُرِّ يكمُنُ حيناً ثم ينتشرُ) فإن مجيء امرأته أعداه كما يعدي الجرب، فثار ما كمن فيه ثم استشرى، فإذا هو وافد قومٍ هم ما هم.

وفي هذه السنة التي انتفض عليه فيها عر قومه، جلسنا يوما نتحدث فجرى الحديث إلى ذكر السودان، فقال لي إن قضية مصر في مسألة السودان ليست إلا دعوى لا خير فيها، فإن هذا النيل الذي تزعمون أنه يربط بين مصر والسودان رباطاً لا انفصام له لا ينفعكم لإقرار الحجة لدعواكم أن مصر والسودان أمة واحدة. وقال: أرأيت إلى نهر الدانوب، كيف يجوز في العقول أن يدعي مدعٍ ممن يعيش على مده أنه يوجب توحيد الأمم التي عليه لتكون أمة واحدة؟ أو ليس إذا قام شعب من شعوب الدانوب فأدعى بمثل ما تدعون،

<<  <  ج:
ص:  >  >>