يشيع في هذا العصر نقد التاريخ، لأن أبواب التاريخ على اختلافها قد أصبحت من موضوعات الدراسة الشائعة في المدارس والجامعات، وأصبح التعليق عليها من عمل الأساتذة والطلاب والقراء.
وقد لاحظنا أن نقد التاريخ عندنا يثبتون وينفون، ويصوبون ويخطئون، ويعرضون للروايات والأسانيد بين قبول ورفض، وبين ترجيح وتوهين، ولكن الكثيرين منهم لا يلتفتون إلى الفرق بين صحة الرواية ودلالة الرواية، وهما شيئان مختلفان، لأن الرواية الصحيحة قد تكون خلواً من الدلالة في تاريخ الأمة أو سيرة العظيم، وقد تكون الرواية الكاذبة أدل على الأمة أو على العظيم من كل خبر صحيح.
لهذا لا يصح أن يكون عمل الناقد التاريخي مقصوراً على إثبات الصحيح وإسقاط غير الصحيح؛ لأن الخبر الذي له دلالة نفسية أو دلالة اجتماعية لا يسقط من سجل التاريخ، وإن كان مقطوعاً بكذبه أو مشكوكا فيه؛ فإنما المهم - جد المهم - في التاريخ هو ما يدل عليه.
ولنذكر مثلا لذلك ما قيل عن حروب الإمام علي رضي الله عنه مع كفرة الجن في الكهوف والمغور، وما كان من تأليبه الجن المسلمين على الجن الكافرين في أيام الدعوة الإسلامية.
فقل في صحتها ما تشاء. قل إنها كذب محض وتوليف من نسج الخيال، ولكنك لا يجوز لك من أجل ذلك أن تلقي بها في سلة المهملات كما يقولون، لأنها لا تكون من المهملات وفيها دلالة على شيء كثير، وفيها بيان للفارق بين (شخصية) علي وشخصية غيره من الشجعان في نظر الناس.
لم لم ترو أمثال هذه المعارك عن خالد بن الوليد؟ إن خالدا رضي الله عنه كان من أشجع فرسان العرب والإسلام؛ فليس اعتقاد الشجاعة في إنسان هو الذي يوحي إلى الخيال أن يتمثله في تلك الصورة وينسج حوله أشباه تلك الروايات، ولكنها الشجاعة وشيء أخر غير الشجاعة، وهو الإيمان بقدرة غيبية أو بسر من الإسرار الإلهية يملكه هذا الشجاع ولا يملكه ذلك الشجاع.