لم أكد أفرغ لنفسي، وأنفض عن فكري مثاقل الهم الفادح الذي أتحمله إذا كتبت في شأن هذه الأمم المسلمة - حتى دخلت علي في خلوتي أيام وليال، تعلمني أن الباطل المشرق، صنو الباطل المظلم البهيم. بل إن الباطل المشرق أضرى وأفتك بالبشر من صنوه وأخيه المظلم. للباطل المظلم ردة، كردة الوجه القبيح، يزوي لها الناظر ما بين عينيه، ويرد بصره معرضا عما يرى فيه من قبح. أما الباطل المشرق المضيء، فله فتنة تنادي، كفتنة وجه الحسناء الخبيثة المنبت، تأخذ بعين الناظر، فيقبل عليها ملقياً بنفسه في مهالك هذا الجمال الآسر، وإذا المنبت الخبيث ذرة مستهلكة في هذا التيار المترقرق من فتن الحسن والهوى.
وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى - والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام، فنسبت إليه؛ وصفت به - تعيش اليوم في بريق متلألئ من هذا الباطل المشرق. فمنذ أكثر من مائتي سنة، ضربها الغازي المستعمر الصليبي ضربة رابية، حتى خرت عاجزة، ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت. وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون. وكذلك يقضي قضاءا ساحقا على أسباب الحياة الأولى، الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية.
ثم جاء اليوم الذي ظن فيه هذا العالم أنه ارتد إلى الحياة مرة أخرى. ونعم، أنه ارتد إلى حياة مرة أحرى، ولكن أي حياة! ما على الآلاف المؤلفة التي تدب في أرجاء هذا العالم من مثل هذا السؤال؟
إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالي بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشئ فيهم حباً لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة