كنا في حجرة استقبال، بدار إنجليزية، بإحدى مدائن إنجلترا، والفصل شتاء، والوقت ليل؛ فالستائر مسدلة، ونار الفحم موقدة، ونحن في غمرة من الدفء الشهي، ذلك الموج الخفي. في اللجي الأثيري. وكانت الطبيعة في تلك الليلة غضبى والريح تهب من جميع الجهات إلى جميع الجهات، يجن جنونها فتثب على الشجر المنحف العاري تعركه عركاً وتكاد تمزقه وتشظيه، لولا تلويه، فتختلط زمجراتها بعويل الشجر. كانت الريح في الفينة بعد الفينة تهوي علينا من المدخنة، كأنما تبحث عنا جاهدة، فإذا استعصت عليها الأبواب والنوافذ لم تتحرج أن تأتي البيوت من سقوفها، فتنقض علينا تنفث في وجوهنا السناج والدخان. ثم ترتد من المدخنة لتكر على زجاج النوافذ تحصبه برشاش المطر.
كنا في الحجرة أثنين. أما الثاني فسيدة إنجليزية شقراء أرملة في نحو الخمسين، تنحني على النار فتجيل فيها العود، وتعتدل فتضع ساقاً على ساق، وتنظر إلى اللظى بعينين رماديتين حالمتين حزينتين. هي (صاحبة البيت) كما كنا نسميها. كنا نسمر سمراً متراخياً أكثره سكوت، إذ كان الحس موزعاً ما بين تخدير الدفء وتخويف الطبيعة. إلى أن حدث أمر أيقظ منا الحس. وأهاج النفس، فإذا هياج الطبيعة من هياج النفس كخطر النسيم من لفح الجحيم.
ذلك أنه كان على إحدى حوائط الحجرة لوحة فيها رسم فتى وفتاة كلاهما في نحو العشرين أو دونها، أما الفتى فكان صغير الجرم. في وجهه إشراق الذكاء. وفي هيئته جد وحيوية؛ يبسم للدنيا - الدنيا المخاتلة! وأما الفتاة فكانت ناهداً هيفاء بسمتها الحلوة خليقة أن تمحو مرارة الدهر، وتطرد الحزن من أقطار الوجود. شعرها مكور على رأسها على النمط الفكتوري؛ ثوبها طويل محكم يبدي من سحرها النسوي ما لا أظن العري يبديه؛ وقفتها فيها ميل من الدل والطراوة، وعيناها رماديتان حالمتان كان في الفتاة من سيدة الدار شبه، ولكنه ضئيل جداً.
لاحت منّي إلتفاتة إلى تلك الصورة، فقلت أسائل السيدة عنها وأجعلها موضوع حديث. فما إن فعلت حتى رأيتها وجمت وجوماً انقبض له صدري. قالت:(ألا تعرف من تكون الفتاة؟)