ما أتعس الطائر السجين إن انفلت يوماً من بين قضبان قفصه الضيق يبتغي الحرية والانطلاق! أنه سيحاول عبثاً أن يضرب الهواء بجناحيه ليستوي مطمئنا بين ثنايا الفضاء، لأنه - ولا ريب - سيجد في جناحيه الذبول وفي قوته الوهن وفي جلده الخور، فهو قد عاش عمره في سجن من حديد. أو قفص من ذهب , ولم يبل الفضاء ولا عرك الحياة.
أما صاحبي فلقد كان طائراً سجيناً أمسكته الحياة في أغلال من حنان أمه لا يحس إلا بنبضات قلبها الرقيق , وكبلته في قيود من عطف أبيه لا يستشعر إلا خفقات فؤاده الرحيم، وحبسته القرية في ظلمات من التقاليد العاتية تسدل على عينيه غشاوة تعميه عن أن يهتدي في مسارب الحياة ومسالكها، ومن ورائه أبوه يلقنه - فيما يلقن - مبادئ الدين الجافة. . الدين الذي يبذر في القلب الرهبة ويغرس في النفس الخنوع وينفث في الروح الخوف ويقيد الهمة بالاستسلام.
ودفعه أبوه الشيخ إلى المدرسة، ووقف ينظر إليه وهو يدلف في البذلة والطربوش يتعثر في مشيته لا يكاد يتماسك. وسرت النشوة في عروق الشيخ حين تراءى له هذا الصبي الضاوي من أعماق الخيال يوشك أن يصبح موظفاً في الحكومة. . موظفاً من ذوي المكانة والشأن، قد ذهب سمعه في الناس ودوى صيته في البلاد، له الأمر والنهي وعلى الناس الطاعة والخضوع؛ فأبتسم للأخيلة الجميلة.
وأحي الصبي - منذ أول يوم - بالعبء الثقيل يفدحه، فهو هنا في المدينة يفتقر إلى العائل الرفيق الذي يربت على كتفه ويغمره بالحنان ويهيأ له حاجاته في عناية ويدلّله في حب , وهو قد نأى عن أترابه في الملعب ونزح عن رفاقه في الغيط، فافتقد اللهو والمرح، ليحس - أذى الوحدة وضيق النفس، وليجد مس عصا المدرس وهي غليظة قاسية. وشعر بالأسى في أضعاف قلبه الغض - لأول مرة - يوحي إليه بأنه أمسى يتيماً ضائعا؛ فانطوى على