لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقي علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد ولا مال ولا جاه: فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير يتحامل على صديق، ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله هل تعرف الفقيد فيقول: لا لم أره في حياته: ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازته.
رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيراً في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخاً متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طراز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب. وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.
لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديراً أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة؛ وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.
ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير؛ ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها؛ ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فأتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى ضحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم. ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء، فهو ذهب خالص غطى بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتحكه وتصل إلى باطن نفسه؛ ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه، وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذلك