للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جسومنا وعقولنا]

بين الصحة والمعارف

إذا عجبت من أن تقوم فينا وزارة المعارف قرناً ونيفاً ثم يظل ثدرس في مانية أعشارنا أميين، فإن أعجب العجب أن تقوم فينا وزارة الصحة زهاء هذا العمر المبارك ثم لا يزال تسعة أعشارنا مرضى

ولا تحسبن ذلك لأن شعبنا بدع من الشعوب هواه في أن يجهل ومزاجه في أن يمرض؛ فإن الله لم يخلق إلى اليوم إنساناً يكره المعرفة ولا حياً يرفض السلامة. إنما السبب الأول في هاتين الظاهرتين الخاصتين بهذا البلد أن القائمين على ثقافة والمسؤولين عن سلامته قد حصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، فلم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له، فيضعوا سياستهم على مقتضيات حالة، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته.

أما الحديث عن ماضي المعارف وخيبتها في كفاح الجهالة وتبعتها من هذه الخيبة، فقد جف من تكراره المداد والقلم، فلندعها في ذمة الرجلين العظيمين النقراشي والسنهوري، فعلى استقلالهما في الرأي يعقد الرجاء، وبإخلاصهما في العمل تناط الثقة؛ ولنمض في الحديث عن وزارة الصحة فقد رعانا أن يتخطفنا الموت احتضاراً وعلى حراستنا جيش من الأطباء له المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية؛ وأصبحنا كلما رأينا القرى والقبور تكتظ بضحايا البلهرسية والأنكلستوما والطحال والملريا والبلغرا وداء الفيل ننكر الواقع ونفكر ونطيل التفكير، ثم نسأل ونكثر السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ ولا تكلفني الإبانة عن آراء الناس، فإنك تستطيع أن تسأل هذه الأسئلة فيكون لديك من الأجوبة عنها ألوف مختلفة الصيغ والأساليب في التألم والتهكم والالتهام والشكاية والزراية والضغينة واليأس. ثم تسمع عن المستشفيات الحكومية في حواضر الأقاليم شجوناً من أحاديث الإهمال والقسوة والفوضى وغير ذلك مما تمسك عن ذكره محافظة على ما بقي فيها من الثقة. ولكنني أحد اللذين جندوا في جيش الإصلاح

<<  <  ج:
ص:  >  >>