أعلنت الصحف ذات يوم أنَّ فلاناً سيتحدث ساعة كذا من المساء حديثاً علمياً، وفلان هذا رئيس مرجوّ مرهوب، يمتد سلطانه إلى الأقاليم، حيث ينبث له في أرجائها عمال ومرءوسون. . . فحدثني صديق من أصدقائي أنَّ كثيراً من هؤلاء المرءوسين قد فرغوا لهذا الحديث، واحتشدوا له حول (المذياع) ثُبات ثُبات: منهم من ينشد العلم، ومنهم من يتزود للملق والنفاق، وأزف الموعد. . . فلو ترى إذ خشعت الأصوات، وأرهفت الأسماع، والليل ساجٍ لا تسمع فيه إلا دقات (الاستراحة) تنبعث متقطعة من (المذياع)، كأنها دقات قلب مضطرب على موعد للقاء. . . ثم نطق المذيع:
(سيداتي، سادتي: لم يتمكن حضرة الأستاذ (. . .) من الحضور، وسنذيع عليكم بعض الأسطوانات!)
ورجَّع المذياع بعد ذلك رنيم (ليلى) وشدو (أم كلثوم) حنى انقضى وقت الحديث!
وزرت هذا الرئيس بعد يومين في مكتبه لشأن من الشئون، وكنت عرفت سر تخلفه عن موعده، فما راعني إلا كتاب يلقيه إليَّ ويطلب مني أن أقرأه، فإذا هو من شخصين مرءوسين له في بلد قريب من القاهرة؛ وإذا هما يقولان فيه:(أما والله لقد أجدت في حديثك ليلة كذا إجادة ما نحسب أن أحداً وفق إلى مثلها؛ ولقد كنا نستمع إليك في جمع من أصحابنا مزهوَّين بك، والقوم من حولنا في نشوة. . . فلما انتهى حديثك لم يبق أحد إلا حيَّاك على البعد ودعا لك، ثم انثنوا إلينا يُلقُّوننا عنك التهنئات. . . فهكذا فلتكن الأحاديث!)
قلت وقد أخذتني الدهشة: أيَّ حديث يريدان؟ قال: هذان شخصان مَلِقان تعوَّدا أن يلقياني في كل مناسبة بمثل ما ترى، وقد حسبا أنِّي ألقيت الحديث!