عرفنا ابن زيدون العاشق الذي يحسن التحدث عن مآسي القلوب، ويكاد يعرف أسرار النفوس، فماذا نقول عن شوقي؟ لقد طال الحديث عن هذا الشاعر في فصول هذا الكتاب، ونخشى أن يتحيَّف حقوق من عرضنا لهم من الشعراء، ولكن كيف نستكثر القول في شوقي، وقد بذَّ ابن زيدون؟ إن نونية شوقي أعجوبة من الأعاجيب، وقد أرسلها من الأندلس في أعقاب الحرب العالمية فضجّ لها شعراء مصر، وأجابه إسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعبد الحليم المصري؛ ولكنهم عجزوا جميعاً عن الجري في ميدانه، ولم يُؤثَرْ لهم في معارضته شيء ذو بال بالقياس إلى أمير الشعراء.
ابتدأ ابن زيدون نونيته بشكوى البين والأعداء والزمان، وكانت الأبيات السبعة التي تحدث بها عن جواه زفرة محرقة لم يعيها ما وشيت به من الزخرف، ولكن أين هي من بداية شوقي حين خاطب الطائر الحزين في وادي الطلح بضاحية إشبيلية؟ لقد تمثل الطائر شبيهاً به في لوعته وجواه فاندفع يقول:
يا نائح الطَّلحِ أشباهٌ عوادينا ... نشْجى لواديكَ أم نأسى لوادينا
ماذا تَقُصُّ علينا غير أنَّ يداً ... قصت جناحيك جالت في حواشينا
رَمى بنا البينُ أَيكا غير سامِرنا ... أخا الغَريب وَظِلاً غير نادينا
إذا دعا الشوقُ لم نبرَح بمُنصَدِعٍ ... من الجناحين عَيٍّ لا يُلَبِّينا
فإن يكُ الجنسُ يا ابن الطلح فرَّقنا ... إن المصائب يَجمعن المصابينا
لم تألُ ماَءكَ تحناناً ولا ظَمأ ... ولا ادِّكاراً ولا شجوَاً أفانينا
تَجُرُّ من فَننٍ ذيلاً إلى فننِ ... وتسحب الذيلَ ترتادُ المؤاسينا
أساةُ جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنُّطس المداوينا
والشاعر في هذه الأبيات حيران، يجعل الطائر في حالتين: حال المغترب، وحال المقيم، فما تدري أيبكي من الغربة أم ينوح من فقد الأليف؛ ومع حيرة الشاعر وضلاله عن تحديد