للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

من الحياة

أهل ووطن

للأستاذ كامل محمود حبيب

أرخى الليل أستاره السود القاتمة على دنيا غضبى تزمجر في صوت عاصفة هوجاء، وسماء ينهمر منها سيل دافق، وقد قر كل إنسان في داره، ونامت الحياة في كل حي، والفتى جالس إلى موقد في زاوية الحجرة، تغمره لجة من الأفكار المضطربة، والخواطر المتناقضة، فتحجبه عن دنيا الناس. لقد رأى نفسه تعصف بها حادثات الأيام فتذرها بددا، فإن مد يده ليجمع أشتاتها لم يجد منها إلا صبابة من نفس لا تستطيع أن ترد إليه جمال الحياة التي عاش شطراً منها بين أهله وذويه، في وطنه الأول حيث ملاعب الطفولة ومراتع الشباب. وجاءته الذكريات من أقصى الطفولة تحمل على أجنحتها لذائذ ولذائذ لتنصَّب في قلبه هموماً وهموماً، واضطربت جوانح الفتى أن وقف خياله عند الساعة التي أفزع فيها هن وطنه وأهله فبكى بكاء الثكلى تفقد صبرها حين تفقد قلبها. ما الذي أزعجك عن وكرك أيها الطير وأنت ناعم على فنن تغرّد، ترى كل مباهج الحياة عند هذا العش الصغير؟ لقد ضاقت بك الدنيا لأنك تركت قلبك هناك. . . هناك في هذا العش. . .!

لم يكن الفتى كَلاً على أحد، ولم يكن معدماً، ولم يكن ضعيفاً ولا عاجزاً، ولكنه هجر وطنه وأهله حين لم يجد فيها جمال الوطن ولا عطف الأهل، وحين لم يجد بين أهله قلباً كقلب أبيه ينبض له نبضات الحنان والرحمة، ولا رجلاً في رجولته يفيض عليه من بسمات نور الحياة وجمالها. ووقف خيال الفتى عند الساعة التي همَّ فيها يفارق وطنه وأهله تتجاذبه عاطفتان: قلبه من خلف، وتأبِّيه أن يقيم على الضيم من أمام! ثم غلبته كبرياؤه فانصاع لها تقوده إلى حيث يجد أهلاً غير أهله، ووطناً غير وطنه؛ أو لا يجد. . .

ماذا كان؟ ماذا كان أيها المنزوي في ناحية من حجرة تحدث نفسك حديث الماضي؟

مرض الفتى فراح يَطبّ لمرضه في عزم الشباب وقوته، وأريد على أن يلبث في مستشفى حيناً، فما خاطب أهله في شأنه، وغاب عنه أن المرض ألم في الجسم وقلق في النفس، وأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>