للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[للأدب والتاريخ]

مصطفى صادق الرافعي

١٨٨٠ - ١٩٣٧

للأستاذ محمد سعيد العريان

لما جاءني نعي الرافعي بعد ظهر الاثنين ١٤ مايو سنة ١٩٣٧ غشيتني غشية من الهم والألم سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن (صادق الرافعي) الذي تنعاه لي (البلاغ) الساعة هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس؛ ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إليّ خيال هذا الماضي بألوانه وإشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي من خريف سنة ١٩٣٢ إلى آخر يوم جلست إليه في قهوة (بول نور) منذ شهرين فحدثته وحدثني ثم انصرفت وانصرف وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .

وعدت إلى النعي أقرأه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قرأته شياً من العلم إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!

حينئذ أحسست كأن شيئاً ينصب انصباباً في نفسي، وأن صوتاً من الغيب يتناولني من جهاتي الأربعة يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني الساعة لتملي عليّ شيئاً أو تتحدث إليّ بشيء. ونفذت إلى أعماق السر حين شعرت كأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا، هام عينا الرجل الذي أحببته حباً فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصاً ليس منه إخلاص الناس، ثم نزع الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إليّ، ثم لم القه من بعد إلا مرسوماً في ورقة مجللة بالسواد. . . وانحدرت من عيني دمعتان!

وانطلق بي الترام إلى غير وجهة معروفة، والدنيا في نفسي غير الدنيا، والناس من حولي غير الناس؛ فلما صار بي الترام في ميدان (العتبة) رأيت جماعة من الشبان والصبيان يسيرون في موكبهم وموسيقاهم هاتفين بنشيد الرافعي:

حماة الحمى يا حماة الحمى ... هلموا هلموا لمجد الزمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>