أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات، ينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجباً، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزى ومناة، ولا تسمى الأوثان حتى ود وهبل؟
كلا، كلا، قد تتابع القوم في سمت وخشوع، فأين الجلبة والضوضاء، والتفاخر بالآباء؟ وإن قريشاً تتجاوز المزدلفة مع الناس إلى عرفات؛ فكيف سوت نفسها بالقبائل، ورضيت أن تسير إلى هذا المنازل؟ لست أرى ما غير قريشاً من غيرهم، ولا الحمس ممن عداهم، وأين النسأة من كنانة؟ لا ترى لهم شارة ولا موكباً ولا تبصر منهم أحداً. ماذا دها العرب فغير سننهم؟ بل من ذا الذي جاءهم فجمع شملهم ووحد كلمتهم وأخلص لله دعوتهم؟ إن هذا لشيء عجاب. كنا قبل سنتين نسمع الضجيج والضوضاء، والتصدية والمكاء، ونرى كل قبيلة تنحاز إلى علمها وتنادي ربها، فمن مشيد بالأوثان، ومن مناد: لبيك رب همدان؟ فاستمع اليوم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك!
قد تغيرت الدعوة واختلف الشعار، وتبدلت السيما والسيرة، ما عهدنا هذا من قبل!
والشيطان ذليل حسير قد أوى إلى صخرة على جنب الطريق يرقب الوفود المتآخية بل الأخوة المجتمعة، يرمي الجموع بعينه خزيان، ويعض بنانه حيران، يقول: (ويلي من محمد! لقد أخرب بيوتي من هذه الأوثان، ومحا البغضاء والشنآن. لقد ذهب النزاع والخصام، وأفلت من يدي الزمام. ويلي من محمد! ألم يكن بالأمس يغشى هذه المجامع وحيداً، ويرتد عنها مخذولاً؟ ألم يكن يعرض نفسه على القبائل لتجيره فيلفي الغلظة والجفاء، والهزء والسخرية؟ ويلي من محمد! لست آسى على الحجاز وحده ولا على جزيرة العرب فحسب، إني لأوجس خيفة أن يجاوز هذا التوحيد الجامع، وهذه الأخوة الموحدة، حدود الجزيرة، فتدمر منازلي من معابد الوثنية، وقصور الجبارين، وتمتد إلى كل بقعة تزلزلها الفرقة، ويسيطر عليها الظلم، ويشيع فيها الفساد، وتتغلغل فيها الفواحش ما