قرأت كلمتك التي أوحى إليك الحنين معناها، فوعيت وحيه وبلغته (الرسالة) وأهديته إلى صاحبها فأثارت قراءتها ألماً في نفسي دفيناً، وبعث فيها شكاة ميتة، فأخذت القلم أكتبها لتكون جواباً لكلمتك. وليغفر لي القراء النحو الذي نحوت إليه فيها، وليغفر الزيات فإنني متألم. . .
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وما عجب أن أدخل بينك وبين الأستاذ الكبير الزيات، فإنه أخي الأكبر، وأنت أخي الأصغر، وأنا أحمل له من الحب والإكبار، على أني لم ألقه أبداً، مثلما أحمل لك من المودة والحب على طول معرفتي بك ناشئاً وشاباً، وعلى أني سأعرفك أدبياً كبيراً إن شاء الله
أنا الآن في شرفتي التي تعرفها. . . أطلّ على دمشق من فوق خمس جواد علوها مائتا متر، فأراها كلها كصفحة الكف، وقد انتصف الليل، وانصرف السامرون آنفاً بعد ما أحيوا ليلة من الليالي التي تعرف مثيلاتها في دارنا، وسكن الكون وشمله الجلال، وأنا جالس وحدي أفكر، لا أفكر في دمشق التي حننت إليها، وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر، وغمر جوّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات، من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. ومالي لا تخمل قريحتي، ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق، على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء، وتهز العلم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت شمل العرب المتفرق، وتوحد الشعب وترجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد. . . تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول، ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول. . . فلم أجد في دمشق إلا النكران والأذى ولم أجد إلا ما يسوء ويؤلم. . .