أعني بابن حجر هنا، شهاب الدين أبا الفضل أحمد العسقلاني المصري. المنسوب إلى عسقلان من بلاد الشام، والمولود بمصر - الفسطاط - والذي عاش بين سنتي ٧٧٣هـ، ٨٥٢هـ. فإن هناك ابن حجر آخر، وهو الهيثمي من علماء العصر العثماني.
أما ابن حجر العسقلاني فهو أشهر من أن يشار إليه، وأجل من أن تكتب عنه عجالة، وأحرى أن تؤلف فيه رسالة مسهبة فياضة تنم عن علمه وتحدث عن فضله. فإن آفاق علمه واسعة، وفجاج فضله رحيبة. وهو في الجبهة الأولى بين علماء العصر المملوكي. وفي الصف الأول بين نابغيه، وممن نبه العصر بنباهته، وسما بسمو مكانته.
أخذ العم على أئمة زمانه كالزين العراقي، والسراج البلقيني، وابن الملقن والإيناسي، والعز بن جماعة، والمجد الفيروزابادي، والعماري والبدر البشتيكي - وطوف في آفاق مصر، وربوع الشام، وجال في نواحي حلب، وحج إلى بلاد الحجاز، وزار اليمن، فأفاده التجوال علماً غزيراً وأدباً جماً وخبرة صائبة ومعرفة سديدة.
وفره في العلم حتى تصدر للإفتاء وقعد للتدريس وعكف على التأليف. ووكلت إليه مناصب عدة من مناصب الدولة من بينها قضاء الشافعية، فنبه فيها شأنه بكفايته ومهابته. فعظم في عيون أهل جيله وعلى رأسهم السلطان الملك المؤيد المشهور، الذي كان ابن حجر في مقدمة هيئة التدريس فيه.
لم يقتصر بروز ابن حجر على مادة علمية واحدة بل تجاوزها إلى غيرها. فقد أغرم بالحديث النبوي الشريف فتلقاه عن حفاظه. وظل يجمعه ويحفظه حتى غدا أحفظ أهل زمانه. وعني بالتأليف فيه وفي تاريخ رجاله، فوضع كتباً عدة منها كتابه المشهور (فتح الباري) الذي شرح فيه صحيح البخاري، وقدمه بمقدمة جليلة سماها (هدى الساري). قال بعضهم (لو وقف عليه ابن خلدون القائل بأن شرح البخاري إلى الآن دين على هذه الأمة، لقرت عينه بالوفاء والاستيفاء). وقال عنه السخاوي في الضوء (إن هذا الكتاب لم يسبق نظيره وكان أمراً عجباً). والحق أنه كان فتحاً مبيناً في تاريخ شرح الحديث - ولابن حجر