يعاني الناس في فصل الشتاء كثيرا من الأهوال والشدائد. وقد كان شعور القدماء بهذه الشدائد أعظم وبخاصة الفقراء منهم. وسكان الأرياف ما زالوا يلاقون من بلاء الشتاء ما كان يلاقيه أسلافهم من قبل. لذلك اعتبروه عدوا لدودا وخصما عنيفا. وشبهوه بجيش جرار أغار عليهم بعساكره مشاة وفرسانا. فعواصف وأنواء، ورياح وزوابع، وأمطار وسيول، وغيوم بعضها فوق بعض، وبرق ورعد، وبرد وثلج. قال القاضي التنوخي:
أما ترى البرد قد وافت عساكره=وعسكر الحر كيف أنصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها=قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا
وقد تبارى الشعراء والكتاب في وصف مظاهر الطبيعة في هذا الفصل وأخترعوا المعاني الجميلة وأتوا بالصور الرائعة، ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا قالوا فيها شعرا ونثرا. قال أبو تمام وهو بخراسان:
ما للشتاء ولا للصيف من مثل ... يرضى به السمع إلا الجود والبخل
أما ترى الأرض غضى والحصى قلقا ... والأفق بالحر جف النكباء يقتتل
من يزعم الصيف لم تذهب بشاشته ... فغير ذلك أمسى يزعم الجبل
غدا له مغفر في رأسه يقق ... لا تهتك البيض فودية ولا الأسل
فالشاعر هنا قد شخص الطبيعة وأضفى عليها ثوبا من الحياة والنشاط؛ فالأرض هائجة ساخطة، والحصى لا يستقر على حال فهو دائم الإطراب، والأفق يتضارب برياح عاتية، والجبال قد اكتست بطبقات كثيفة من الثلوج. ثم حدثنا أبو تمام عن أثر البرد في الضلوع والأحشاء والكلى. وكان قد عانى من أهواله بلاء كبيرا. قال:
من كان يجهل منه جد سورته ... في القريتين وأمر الحق مكتهل
فما الضلوع ولا الأحشاء جاهلة ... ولا الكلى أنه المقدامة البطل
وقد بلغ شغور أبى تمام بشدة البرد أنه بكى على ذهاب الصيف بكاء مرا. قال: