بعثت إليه أول النهار بالرسالة التي سماها (باقية على الدهر) ثم أويت آخر النهار إلى بيتي فوجدت اسطوانات (بيتهوفن) التي استعارها مني قد ردها إلي، فعك إنها القطيعة. فوقفت واجماً في مكاني وزالت آثار الغضب ولم يبق في نفسي إلا ألم عميق: لقد انتهى كل شئ بيني وبين الدكتور طه حسين. . ولم أستطع أن أقرأ شيئا في ليلتي، وما إن أقبل الصباح حتى أوفدت إلى الدكتور طه حسينديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، وإذا به قد دفعها إلى المطبعة، وإذا به يأبى إلا أن يعلن الخصومة إلى الناس. وحاول الصديقان عبثا أن يحولا بينه وبين هذا الإعلان. وحاولا عبثا أن يقنعاه بإبقاء الخصومة سراً بيننا حتى يعرض أمرها على الأستاذ الجليل لطفي السيد بك وكلانا ولده وهو أولى من جمع بين القلوب النافرة وكان إلى ذلك سبيل. لكن الدكتور طه أراد أن ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من أمري وأمره.
قرأت القصة فدهشت. أي روعة وأي إبداع! إنها في ذاتها أثر من آثار الفن الخالد، إني أشهد أنها عمل فني عظيم. فيها من سعة الخيال وروعة الأسلوب ما يضمن لها البقاء. إنها هي التي ستبقى على الدهر.
لقد أعجبت حقيقة بهذه القصة إعجاباً شديداً، وهي عندي من أقوى ما كتب الدكتور. ولقد أنساني إطارها الأدبي ما احتوته
من اتهامات قاسية، وماذا يهم؟ إن شخصي ليس يعنيني كثيراً، كما أنه ليس يعنيديقي الدكتور منذ اليوم. إنما الذي حفلت به حقيقة وأحفل به الآن، هو تلك القطعة التي تشيع الحرارة في جوانبها، ويمتلئ أسلوبها بمرارة مؤلمة. قطعة لا ينساها من يقرؤها. وأغلب ظني أن الدكتور قد أصر على نشرها لأنه يعلم أنه قد كتب شيئاً جميلاً: وأني الآن لأرضى أن يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة الباقية. على أن القارئ وقد فرغ من القصة لابد يسأل نفسه: ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ وأني أمد القارئ بالجواب فأقول: لا شئ في رأيي غيرداقة لا يمكن أن تزول لأنهالة بين قلبين اجتمعا على حب الجمال الأعلى: جمال الفن والحقيقة، ولئن قامت خصومة بيننا اليوم أو الغد، فهي